المنتخب من التفسير -الحلقة 289 - سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (289)

[سورة المائدة: 42-44]

 

سَمَّٰعُونَ لِلكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحكُم بَينَهُم أَوۡ أَعرِضۡ عَنهُم وَإِن تُعرِض عَنهُم فَلَن يَضُرُّوكَ شَيـٔٗا وَإِنۡ حَكَمتَ فَٱحكُم بَينَهُم بِٱلقسطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلمُقسِطِينَ (42)

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) إعرابه كالأول – في قوله: سَمَّٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ – وكررَ للتأكيد، أو الأول خاص بنقل الكذب، وهذا عام في سماع كل باطلٍ لا خصوص الكذب، لنشره الباطلَ لإضلالِ الناس، وصدّهم عن سبيل الله، وتنفيرهم من الدينِ، و(أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) مبالغة في كثرة أكلهم الحرام، والسُّحْت: الحرامُ البيِّن الواضح، مِن سَحَت بمعنى محَقَ واستأصَل، فهو مسحوتٌ ممحوقُ البركة، ومستأصلُ الوجود، يَسرُعُ ذهابُه، ويشملُ السحتُ كلَّ مالٍ حرام؛ كالرشوة والربا وأكل مال اليتيم والغصب، ونحو ذلك (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) جاء في بعض الروايات – في سبب نزول الآية عند مالك في الموطأ – ما يشيرُ إلى هذا التخييرِ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، في الحكم عليهم أو الإعراض عنهم إذا جاءُوه، خيَّرَه الله في الحكم بينهم، إذا جاءوه يطلبون حكمه فيما وقع بينهم، وكانوا لا يأتونَه محبةً، ولا استحسانًا لحكمه صلى الله عليه وسلم، وإنما يأتونه اختبارًا له، أو إذا اختلفوا فيما بينهم في حكم، بعضُهم قال بشيءٍ يوافقُ هواهُم، وبعضُهم خالفَه، فيأتون إليه عازمين على أن يأخذوا حكمهُ إنْ وافقَ هواهم، وإلا تواصَوا فيما بينهم أن يحذرُوه، كما فعلوا عندما اختلفوا في جلدِ الزانِي المحصن ورجمِه، فقال الله لنبيه (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) وفي تقديم الحكم بينهم في الآية على الإعراض، ما يدلُّ على أن الحكمَ بينهم هو الأوْلى، وأنّ الإعراضَ لا حرجَ فيه، وتأكد هذا الأوْلى بقوله (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) وعلى هذا التخيير الواقع في الآيةِ اختلفَ الفقهاء؛ هل يحكمُ القاضي المسلمُ بينَ غير المسلمين، أو يُتركونَ لأهلِ دينهم؟ وأكثر أهل العلمِ على أنَّ القاضيَ المسلمَ يحكمُ بينهم بحكم الإسلام، فيما ترافعوا فيه إليه، ويتركونَ لأهل دينهم فيما لم يترافعُوا إليه، إلا إذا كان تركُهم يخشَى منه فسادٌ أو فتنةٌ على المسلمين (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا) التنكيرُ في (شَيئًا) للتقليل، وهذا التذييل بنفي الضرر الذي جاء عقب تخيير النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم، يفيدُ أنهم لا يقدرونَ على أنْ يضروه بشيءٍ مهما كان قليلًا، فلا يخشاهُم لا على نفسِه ولا دعوتِه، وهذا ممّا يثبّت العدلَ ويقوّيه، وهو أن يَشعر الحاكم بين الناسِ بالطمأنينة، فلا يلحقُه أَذًى؛ لا في نفسِه، ولا في الحقِّ الذي يحكمُ به ويدعو إليه، وذُكرت حالة الإعراض دون الحكم بينهم؛ لأنه قد يتبادرُ أنه لو أعرضَ ولم يوافقْهم في الذي يريدونه مِن موافقتهم فيما حرفوه، قد يؤذُونَه، والأذى الذي يخشَى هو التنفيرُ من الدعوة، بأن يشِيعُوا بين الناس أنّهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكمَ بينهم، فأعرضَ عنهم، فأمَّنه الله ممَّا يخافُه، وقال (فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗا).

 

وَكَيۡفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوۡرَىٰةُ فِيهَا حُكۡمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوۡنَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۚ وَمَآ أُوْلَٰٓئِكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ (43)

الاستفهام في (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) للتعجيب من حالهم، أي: كيفَ يعدُّونَه عدوًّا ولا يؤمنون برسالته، ثم يحكِّمونه، والحالُ أنّ (عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ) كتابهم المنزل عليهم (فِيهَا حُكْمُ اللهِ) لما يطلبونه، كل هذا يدل على أنهم لم يطلبوا الحكم اتباعًا للحقِّ ونزولا عليه، وإنما يبحثون عن رخصة يتنصلون بها من حكم الله في التوراة، لعلهم يجدونها، وقوله (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) عطف على جملة الاستفهام، أي يحكمونك ثم يتولون عندما لا يوافق الحكم هواهُم، وجملة (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) حاليةٌ من ضمير الرفع في يحكِّمونك، أي: أولئكَ يحكمونَك والحالُ أنهم   بلغوا شأوًا بعيدًا في تحريف الكلمِ، والتلاعبِ بالأحكام، والتنصُّلِ منها، فليسُوا هم بالمؤمنين، لا بكتابِهم، ولا بكتابِ وأحكامِ المسلمين، ويدلُّ على التعميم في عدمِ إيمانهم لا بالتوراة ولا بالقرآنِ حذفُ متعلقِ (بِالْمُؤْمِنِينَ)  فعدمُ الإيمان صفةٌ ثابتةٌ لهم، ملازمةٌ، لا ينفكونَ عنها.

 

إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ (44)

بعد التعجيب من حال اليهود، لتركهم الحكمَ بالتوراة التي فيها حكمُ الله، لم يَنسدَّ عنهم البابُ، حيثُ بيّن لهم في هذه الآية ما يرغِّبُهم في الرجوعِ إليها، فقيلَ لهم (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ) أي هيَ من الوحيِ المنزلِ مِن عند الله، وجملة (فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) حالٌ من التوراة؛ أي أنزلها الله حالة كونِها فيها الهداية للحقّ، ونورٌ وبيانٌ وتوضيحٌ لهذا الحق (يَحْكُمُ بِهَا([1]) النَّبِيُّونَ) أي: يحكم بالتوراة أنبياءُ بني إسرائيل؛ موسَى عليه السلام ومَن بعده، و(الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفةٌ لمدح الموصوف، وهم النبيُّون، والمدح الذي تضمنته الصفة للتنويه وتعظيم شأنها، لإظهار شرف الإسلام، والترغيب في الاتصافِ به، ومعنى الإسلام: الانقياد والاستسلامُ لله، والأنبياء جميعًا دينُهم الإسلام، دين التوحيد، لا دين الشرك، دين اليهود والنصارى المحرف، فدينهم الحنيفية التي قال الله عنها: (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)([2])، وقد قال يوسف عليه السلام: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا)([3])، وقوله (لِلَّذِينَ هَادُوا) متعلق بـ(يَحْكُمُ) يحكمون بالتوراة للذينَ هادوا، وهم بنو إسرائيل، وأصلُ الذين هادُوا هم فرعُ يهوذا مِن بني يعقوبَ عليه السلام، ولكنه صارَ علمًا بالغلبة على بني إسرائيل (وَالرَّبَّانِيُّونَ) ويحكم بها الربانيون، وهم العلماءُ الزهَّاد، العاملونَ بالوحي، نسبةً إلى الربّ، وعرفَ البخاريُّ الربَّانيَّ بأنه: “الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ”([4])، وهذا من تمام التربية والإخلاص في تعليم الناس (وَالْأَحْبَارُ) جمع حبْر، بفتح الحاء وكسرها، وشاع استعمالُه بالفتح؛ للتفريق بينَه وبين المِدَاد، وهم علماءُ اليهود، والباء في قوله (بِمَا اسْتُحْفِظُوا)  للسببية، أو للملابسة، وما بمعنَى الذي موصول، والعائد محذوف، والسين والتاء في قوله (استُحفِظُوا) للطلب والأمرِ بحفظ التوراة، والكتبِ التي أنزلتْ على بني إسرائيل، بأن يحفظوها من التغيير والتبديل والتضييع، والضمير في (استحفظُوا) يعودُ على الربانيين والأحبار، فهم الذين أمِروا بحفظِها، ومِن في (مِنْ كِتَابِ اللهِ) بيانية، بينَتْ ما أمِروا بحفظه وهي كتبهم، فكتاب الله الذي أمروا بحفظه مفردٌ مضاف، يعمُّ كلَّ الكتب التي أنزلت على أنبياءِ بني إسرائيل، والحفظُ الذي طلبَ منهم هو حفظها مِن التبديل والتغيير، ومِن حمْلِها على غير وجوهِها بالتأويلِ الفاسد (وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) أي طلبَ منهم أن يكونُوا شهداء رقباءَ وحراسًا على كتبهم، فلا يسمحونَ بتحريفها، فعُديتْ شهداء بعلى لتضمنِها معنى المراقبة والحراسة، فالمطلوبُ من الأحبار أنْ يقوموا ببيانِها وحفظِها، والذود عنها من التزويرِ والتبديلِ، ولكنهم لم يوفوا بما طلبَ منهم مِن حفظِها، فوقعَ فيها التبديلُ، وحُفظ القرآن؛ لأن الذي تولّى حفظَه هو الله، ولم يكلْه إلى غيره، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)([5])، حكَى القاضي عياض في الْمَدَارِكِ: “عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ القاضي يَوْمًا فَسُئِلَ: لِمَ جَازَ التَّبْدِيلُ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي أَهْلِ التَّوْرَاةِ: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) فَوَكَلَ الْحِفْظَ إليهمْ، وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)، فَتَعَهَّدَ اللهُ بِحِفْظِهِ، فَلَمْ يَجُزِ التَّبْدِيلُ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْمُحَامِلِيِّ، فَقَالَ: لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا”([6]).

 

[1]( الجار والمجرور (بِهَا) واقع موقعَ الصفةِ لمَا يحكمون به، والضمير في بها يعودُ على التوراة، والتأنيث فيها لفظي؛ لأنها وإن كانت غير عربيةٍ فأشبهتِ الألفاظَ العربيةَ، التي لحقتها التاء.

[2]) البقرة: 132.

[3]) يوسف: 101.

[4]) البخاري: بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ: 1/24.

[5]) الحجر: 9.

[6]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك: 1/ 410.

التبويبات الأساسية