بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

(أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران:136-139].

(أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ) إنْ جعلت أولئك خبرًا لقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) على ما تقدم، فيكونُ ما يأتي بعدها – من الجزاءِ بالمغفرة والجنة – هو للذين أصابوا الفاحشةَ والكبيرة ولم يصرُّوا، وهو جزاءٌ أدنى مرتبةً من جزاء الذين ينفقون في السراءِ والضراءِ، فالمنفقونَ وُصفوا بأن لهم جنةً عرضُها السمواتُ والأرض، وختم جزاؤهم بمحبةِ الله لهم، ووصفِهم بالمحسنين، وأمّا الذين فعلوا الفاحشةَ ولم يصرُّوا، فوُصفوا بأن لهم (جَنَّاتٌ) بالتنكير، لم توصَف، وسُمِّي جزاؤهم أجرًا، وشتان بين جزاء المحسنين وأجرِ العاملين، فالمحسنون لهم جزاءُ الضعف وزيادة، بخلاف الأجر؛ فإنه على قدر العمل، وأما على أنّ جملة (وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) معطوفة على (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) وجملة (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ) بيانٌ لما قبلها من المعطوف والمعطوف عليه، فلا تفيد هذا التفصيلَ بين الفريقين، بل يكونُ الجزاء في الأولى والأجر في الثانية تنويعًا للتكريمِ والإتحافٍ لفريق واحد (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) جملة إنشائية عطفت على الخبرية وهي (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ)، و(نِعْمَ) من أفعال المدح، والمخصوص بالمدح محذوفٌ، تقديره: ونعمَ أجرُ العاملين الجزاءُ الذي ذُكر، أي: أنعم وأكرم به من جزاء.

(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) خَلتْ: ذهبتْ ومَضت، و(سُنَنٌ) جمع سُنّة، أصلها: الطريقة والعادة، وما يجري من الأحوال على نسقٍ واحدٍ، وهي بمعنى الأحداث والوقائع في الأزمانِ الماضية؛ لأنها جارية على عادةِ اللهِ التي لا تتبدلُ في الأولينَ والآخرين، لتؤخذَ منها العبر، فقد مضتْ سنةُ الله بالابتلاء والتمحيص للمؤمنين، وبإهلاك المكذبين للرسل، والطغاةِ والظالمين، أهلكَهم الله واستأصلَهم، وتركهم أثرًا بعد عينٍ (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) سيروا سَيرَ قراءةٍ ودراسةٍ للتاريخ وحوادثِ الأيام، وسَير أبدانٍ بالأقدامِ لتروا آثار مَن مضى وديارَهم، التي تشهدُ على ما حلَّ بهم، وما كانت عليه عاقبةُ أمرهم، بسببِ كفرِهم وصدّهم عن سبيل الله؛ كما قال تعالى: (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا)([1]).

والإشارة في قوله: (هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ) للنظر والاعتبار بسنن الماضين، المفهوم من الأمر بالسَّير، أو إشارة إلى القرآن؛ لأنه حاضرٌ في الذهن كالمشاهَد، أو الإشارة إلى قوله: (قَدْ خَلَتْ) وما بعده، بتأويل: هذا المذكور بَيَانٌ لِلنَّاسِ وبلاغٌ وتوضيحٌ (وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) وإرشادٌ وتبصيرٌ للمتقين، والآيةُ تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين؛ فإنهم إذا علمُوا أنّ للهِ تعالى عادةً جاريةً في إهلاكِ الظالمينَ وتمحيصِ المؤمنين، اطمأنُّوا، وعلمُوا أن العاقبةَ لهم، فما عليهم إلا أن ينظروا في مَن مَضى، فإنهم إذا نظرُوا ازدادُوا ثباتًا بما فعلَه الله تعالى بالظالمين، اعتبارًا بأحوالهم.

 (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا) تهنُوا: من الوهن والضعف، وتَحْزَنُوا من الحزن: الأسَى والأسف الشديد، الذي يغمّ القلب ويهمّ النفس (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) مِن العلو، وهو الغلبةُ وارتفاعُ المنزلة، والجملة حالية، وهذا تثبيتٌ من الله تعالى للمؤمنين، ولأهلِ الحق في معاركهم مع أهلِ الباطلِ، حتى لا يَضعفُوا لما أصابَهم في بعضِ معاركِهم، كما وقع للمسلمين يومَ أُحد، مما أجراهُ الله تعالى على مقتضى السُّننِ عندَ التخلّي عن الأسبابِ، ومعنى النهيِ عن الحزنِ والهوان، النهيُ عن تركِ الأخذِ بالأسباب وإعدادِ العدةِ، أو التفريط فيها، أي: فلا يصيبنكم الضعفُ والوهنُ، ولا يأخذنّكم الحزنُ والأسف، فيؤدّي بكم إلى الضعف والوهن، وتنكسر إرادتُكم لما فُقد منكم وأُصبتم به، فتجرُّوا على أنفسِكم وقومِكم الفشلَ  والاستسلامَ، فأنتم الأعلون، والعاقبةُ في الآخرة عند الله لكم، والنصرُ والغلبةُ في الدنيا آخرَ الأمرِ حليفكم؛ لأنّ الله تعالى وعدكم به، ووعدُ الله لا يتخلفُ؛ قال تعالى: (وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعَادَ)([2])، ولأنكم تقاتلون على الحقِّ لإعلاءِ كلمة الله، ونصرة دينِه، فأنتم حزبُ الله المفلحون، وجندُه الغالبون؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)([3])، وهم يقاتِلونَ على الباطل، وينصرونَ أهله، ويعلنون العداوةَ لدينه، فهم حزبُ الشيطان الخاسرون، وجندُ إبليس وحلفه الأذلّون، قتلاكُم في الجنة، وقتلاهُم في النار، وشتّان بين الحزبين والفريقين، بين مَن ينصرون دينَ الله، وبين مَن يعادونه، فلا تهنُوا ولا تحزنُوا ولا تَضعفُوا إن كُنْتُمْ مؤمنين، فالضعفُ واليأسُ يُنافيان الإيمان، فحرِّكوا الإيمانَ في قلو بكم، وحافظوا على جذوته حيةً في نفوسكم.

[1]) الأحزاب:62.

[2]) الزمر: 20.

[3]) الصافات: 71،72،73.