بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (63).
(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
(لَوْ) يجوزُ أنْ تكونَ شرطيةً وجوابُها محذوفٌ، دلّت عليه جملةُ (لَمَثُوبَةٌ) فليست هي الجواب؛ لأنّ جوابَ لو لا يأتِي جملةً اسميةً، أي: لو أنّهم آمَنُوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم والقرآن، واتّقَوا بالابتعادِ عنِ السحرِ والمعاصِي؛ لأثابَهم اللهُ، وأعطاهُم الجزاءَ الحسنَ، ويجوزُ أن تكونَ (لَو) للتمنِّي، لا تحتاجُ إلى جوابٍ، وأدواتُ التمنّي والترجّي في القرآن تُحمل على المخاطَبينَ؛ لأنّ التمنّي والترجّي على الله مُحالٌ، وعلى الوجهينِ - في معنى حرف لو - فجملةُ (لو) اكتملت بجوابها، أي: لو أنّهم آمنوا لأثابهم الله، أو لتَعرّضُوا لثوابِهِ، فقولُه (لَمَثُوبَةٌ) جملةٌ مستأنَفةٌ، مقترنةٌ بلام الابتداءِ الموطئة للقسمِ، الدالّةِ عليه، والتنكيرُ في (مَثوبةٌ) للدلالةِ على أنّ أيَّ قدرٍ مِن المَثوبةِ - مهما كان قليلا - فيهِ الخيرُ، فالتنكير للتقليلِ، و(خَيرٌ) صفةٌ مشبهةٌ، تثبتُ ملازمةَ الخيرِ للإيمانِ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) شرطٌ آخرُ محذوفُ الجوابِ، وحذفَ مفعولُ يعلمونَ لدلالةِ ما قبلَهُ عليه، والتقديرُ: لو كانوا يعلمونَ مثوبةَ الله ما اشتروا السحرَ وأعطوا فيه دينَهم، وهم قد علِموا، لكن نُفيَ شرفُ العلمِ عنهم لتركِهم العملِ بهِ.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا راعِنَا) راعِنا فِعْلُ طَلَبٍ مِنَ الرَّعْيِ، مبالغةٌ دلّت عليها المُفاعلة، مِن رعاهُ إذا حرسَهُ مِن الهلاكِ والتلفِ، والرّعيُ والرّعايةُ حفظُ الغيرِ، عاقلًا كان المحفوظُ أو غيرَ عاقلٍ؛ لمصلحتِه والرفقِ به ومراقبةِ نفعِه.
وسببُ نزولِ الآية أنّ المسلمين كانوا يقولونَ للنبيّ صلى الله عليه وسلّم: راعِنَا، يطلبونَ منه أنْ يتأنّى ويترفّقَ بهم، ويمهلَهم فيمَا يلقيهِ عليهم مِن الوحيِ، فلا يعجلَهم؛ ليتمكنُوا مِن فهمِ كلِّ ما يقولُ، وكان لليهودِ معنًى آخرَ لكلمةِ (رَاعِنَا) في لغتِهم العبريةِ، يستعملونَهُ في السبِّ، مِن الرُّعونةِ والجهلِ، ولمَّا سمعَ المنافقونَ من اليهودِ المسلمينَ يقولونَها للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم، يطلبونَ منه الترفقَ بهم في التعليمِ، وجدوا ذلك فرصةً مواتيةً، يصلونَ منها إلى غرضِهِم الخبيثِ، فقالُوا: كنّا نسبُّه سرًّا، فالآنَ نسبّه جهرًا، وخاطَبوا بها النبيَّ صلى الله عليه وسلّم، يريدون سبّه.
ومَعنَى راعِنَا عندَهم: اسمَعْ لَا سَمِعْتَ، وقيل: أرادُوا (راعنًا) اسْمَ فاعلٍ مِن رَعَنَ، إِذَا اتَّصَفَ بِالرُّعُونَةِ، فنُهي المؤمنونَ عن استعمالِ الكلمةِ سدًّا للبابِ، وقطعًا لذريعةِ الفسادِ، وأُمروا باستعمالِ كلمةٍ أخرَى، تساويها في المعنى وفي الحروفِ (انْظُرْنَا) أي: انظُر إلينَا، مِن النظرِ في الأمرِ والعنايةِ بهِ، تفيدُ المُراد، وينتفي معها التلبيسُ الذي أرادَه اليهودُ.
وقد دلّت الآية على أصلٍ مِن أصولِ استنباطِ الأحكام (سَدّ الذّرائِعِ)، وهو استعمالُ ما ظاهرُه الجوازُ للتوصلِ به إلى المحظورِ.
(وَاسْمَعُوا) سماعَ مَن يعملُ بما سمعَ ويَقبلُ، لا سمَاعَ المكذِّبِ كمَا يفعلُ اليهودُ؛ يقولونَ سمعنا وعصينا، ولا سماعَ المنافقين؛ يقولونَ سمعنَا وهم لا يسمعونَ (وَلِلْكَافِرِينَ) المرادُ المنافقونَ من اليهودِ، فتكون (ال) للعهدِ، ووُصِفوا بالكفرِ زيادةً في ذمِّهم، ويدخلُ في حكمِهم كلُّ مَن عانَدَ عنادَهم، وأصمّ سمعَه عن قَبولِ الحقِّ (عَذَابٌ أَلِيمٌ) مؤلمٌ لا يفتّرُ عنهم وهُم فيه مُبلسونَ.
بعد أن ذكر الله ذمهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ أنّ سببَهُ الحسدُ، فهذه هي حقيقةُ ما يمنعُهم مِن الإيمانِ بهِ، لا كمَا ادّعوا مِن أنّ الذي يمنعُهم إنّما هو التمسكُ بكتابِهم، وأنّهم لشدةِ حرصِهم عليه لَا يريدونَ أنْ يخلطوا به غيرَه، كما ذكر الله تعالى عنهم: (وإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤمِنُ بِما أُنزِلَ عَلينَا).
(يَوَدُّ) مِن الوُدّ، ومعناهُ محبةُ الشيءِ مع تمنِّيهِ والحرصِ عليه (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) (مِن) بيانية، بينت مَن هُم الذين كفروا، وأنهم أهلُ الكتابِ اليهودُ والنصارَى (وَلا الْمُشْرِكِينَ) ذكر المشركينَ للاحتراس، حتّى لا يظنّ عدم دخولِهم، أُضيفوا فهم أيضًا - مع مَن قبلهم - لا يتمنّونَ ولا يحبُّونَ (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وجملة (أن يُنزل) في موضع المفعولِ لِيودّ، أي: ما يودّون نزولَ خيرٍ عليكم، و(خَيرٍ) نائبُ فاعلٍ يُنزّل، ودخلتْ عليه (مِنْ) لتأكيدِ نفي مَّوَدَّة الخيرِ لكم، والخيرُ: النعم والفضائلُ، وكلّ ما ينفعُ المسلمين في الدنيا والآخرة، وهو معنى الرحمةِ الآتيةِ في قولِه: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)، وفي مقدمة هذا الخيرِ، الذي لا يتمنونَه للمسلمين؛ إقامة دينِهم، وما جاءهم به هذا الدين مِن القرآنِ والحكمة، والنصرة والتمكينِ (مِن رَبّكُم) مِن ابتدائية، فالخيرُ ابتداؤه ومنشؤه مِن ربّكم، لا مِن غيرِه، وجيءَ باسمِ الربّ سبحانَه هنا؛ لأنّ الخيرَ ونزولَ النعمِ يناسبُه اسم الربوبيةِ، لِما في معناه مِن معنى الرعاية والعناية بالمربوبِ، على حين أنَّ اختصاصَ أحدٍ بالرحمةِ لتصيبَه هو دون غيره، لمَّا كانَ مبنيًّا على المشيئةِ ناسبَهُ اسمُ الألوهيةِ، فقال: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) يختصّ بهذا الخير - مِن الوحيِ والنبوءةِ ونِعم الإسلام التي حسدُوكم فيها - الله يختص بها مَن يشاءُ مِن عبادهِ، فلا يجبُ عليه شيءٌ سبحانه، وليس لأحدٍ عليه حقٌّ إلا ما شاءَهُ وأرادهُ بمحضِ فضلِهِ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[1] (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فضلُه عميم على جميعِ خلقِهِ، فاختصاصُه لبعضِ خلقهِ بالوحيِ والنبوةِ، أو النصرِ والتمكينِ، أو العلمِ والفضلِ، أو العافيةِ والغنَى والجاهِ، وحرمانُه لآخرينَ ليسَ لضيقِ فضلِهِ؛ بل لمشيئتِهِ وحكمتهِ وعدلِه، ثم إنّ اختصاص فضله بالنبوءةِ - التي حسدوا عليها النبي صلى الله عليه وسلم - يختلفُ عن اختصاصِ غيرِها مِن الفضائلِ، فالنبوءةُ اصطفاءٌ مِن اللهِ، لمَنْ عَلمَ اللهُ أَنَّهُ أهلٌ لهَا، ولمن خلقَ اللهُ فيه القابليةَ لتلقّي الوحيِ؛ قال الله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)[2] فليستِ النبوءةُ حاصلةً بالاكتسابِ والاجتهادِ، وذلك لخطرِ أمرها، بِخلَافِ غَيرِها مِن الفضَائِلِ، فتُكتسبُ بالجدِّ والمثابرةِ؛ كالجدِّ في التعلمِ لرفعِ الجهلِ، والجدِّ في الكسبِ لرفعِ الفقر، وتحصيلِ الصلاحِ بالتزامِ الطاعاتِ وتركِ المعاصِي، فذلك للجدِّ والتدبير فيه نصيبٌ، مع التوكلِ في طلبِه على اللهِ، والتزامِ طاعتِهِ، والسعيِ في مرضاتِه؛ ليكونَ أهلًا لمحبتهِ وعونهِ وتوفيقه، وقدْ ثبت عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: (تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ)[3].