المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 209- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
 الحلقة (209)

(الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران:183-185].
(الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا) هم جماعة من اليهود، فـ(الَّذِينَ قَالُوا) في هذه الآية بدلٌ من قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) في الآية السابقة (عَهِدَ إِلَيْنَا) أَمرنَا وأوصانَا (بِقُرْبَانٍ) ذبيحة يتقرب بها إلى الله (تَأْكُلُهُ النَّارُ) بعد أن يتقربوا به، والمعنى أن هذه الطائفة من اليهود لتعنتهم، قالوا كذبا وبهتانا يبررون كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم إنهم لن يؤمنوا؛ لأن الله عهد إليهم في التوراة ألا يؤمنوا برسول حتى يأتيهم بمعجزة، تتمثل في قربان ذبيحة يذبحها، فتنزل نار من السماء فتأكلها، وذلك علامة على أن الله تقبلها، وقد كان أمر القربان الذي طلبه اليهود معروفًا من الأنبياء في الأمم الماضية، ولذلك رد الله عليهم هذا التعنت (قُلْ) لهم يا محمد (قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) في بني إسرائيل، مثل: يحيى وزكرياء، جاؤوكم بالبينات والمعجزات الواضحة، التي لا تختلف في دلالتها على صدق الرسالة عن القربان، وجاؤوكم أيضًا (بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) جاؤوكم بالمعجزة التي طلبتموها، وهي نزول القربان تأكله النار، فلو سلمنا صدق ما ذكرتموه، من أن الله عهد إليكم في التوراة ألا تؤمنوا حتى يأتيكم القربان، فلم قتلتم أنبياءكم؟! وهم قد أتوكم بتلك المعجزة التي طلبتم، وبغيرها من المعجزات، فلو كنتم صادقين في دعواكم أنكم ما تكذبون إلا انقيادًا للتوراة، ووقوفًا بما عهد الله به إليكم فيها، لما قتلتم أنبياءكم، لكنكم قتلتموهم، فأنتم تكذبون على الله، والاكتفاء بقوله (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) دون إعادة ذكر كلامهم؛ مِن الإيجاز البليغ، بما يأتي على كامل المقصود، مع نسبة القول إليهم لتبكيتهم، والتسجيل عليهم.
(فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ) هذا من التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وإعلامه بأن التكذيب ليس خاصًّا برسالته صلى الله عليه وسلم، بل كُذبت رسل من قبله (جَاؤُوا) أقوامهم كما جاء هو (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِير) بالمعجزات الواضحة، والمواعظ المذكرة الزاجرة، والكتب والشرائع النيرة، ومع ذلك كذبوهم وآذوهم، فاصبر على قومك، واثبت، فهذه طريق الأنبياء والمرسلين، والبينات: الدلائل والمعجزات الواضحة، والزُّبر: جمع زَبور، كتب المواعظ والتذكير، والكتاب المنير (ال) فيه للجنس، ويطلق الكتاب على كتب الشرائع والأحكام كالتوراة، والمنير: المبين.
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) هذا خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، لا تحزنوا على مَن مات منكم في سبيل الله، كما كان في أُحد، وقبل ذلك في بدر، فإنّ الموت سيحل بكلّ نفس مخلوقة، وينزل بها لا محالة (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) إنما تعطون ثواب جهادكم وأعمالكم وافيًا، على أكمل وجه ترضونه (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يوم المحشر، سمّي بالقيامة لأن الناس يقومون إليه من قبورهم قومةً واحدةً، فستعطون أجوركم كاملةً وافيةً، لا كما تعطونها في الدنيا ناقصةً منغصةً، تارة تصيبون من عدوكم، وتارة تُصابون، فما تعطونه في الدنيا لا تظنّوا أنه كامل موفى، بل الكامل ما ينتظركم في القيامة، فالقصر الذي أفادته (إنما) مما يسمى قصر القلب، يؤتى به لمن كان يظن شيئًا، فيوجه بالكلية إلى غيره (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أُبعد وصُرف، وحول عن النار، والفعل زحزح أصل معناه: الجذب السريع، واستعمل في لازمه، وهو البعد، وتكرار حروفه فيه معنى تحقق البعد من النار، وتأكيد معناه (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) فالنجاة من النار هي في حقيقتها نعمتان، لا نعمة واحدة؛ نجاة من العذاب، ومكافأة بنعيم الجنة، وذكرت لأنه لا يلزم من النجاة من النار دخول الجنة، وقوله (فَقَدْ فَازَ) جواب الشرط، والفوز: الظفر بالبغية، وحذف معموله ليفيد العموم، أي: فقد بلغ غاية ما يرجوه، من كل محبوب، والجواب بالفوز، وإن كان معلومًا من حصول الشرط وهو الزحزحة عن النار، فإن ذكره يفيد التنويه والتفخيم، والإشادة بالجزاء، الذي مَن أدركه فقد أدرك كل شيء، ولا يبغي غيره، على حد قولهم في التنويه بالظفر بالجزاء الذي يُعاد بلفظ الشرط: مَن أدركَ هذا اليوم فقدْ أدرك، ومن أمثال العرب: (مَن أدرَكَ مَرعَى السّـعدان فقد أدرك)، وفي مسند أحمد قال صلى الله عليه وسلم: (من أحبَّ أن يزحْزَح عن النار ويدْخل الجنة، فلْتُدْرِكْه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس ما يحبُّ أن يؤتَى إليه)() (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) الغرور مصدر غر، أو جمع غار، هو: الخداع والتدليس، والمتاع: ما يبهرج ويعرض للسوم، ليغري المشتري على الوقوع في الشراء، فمتاع الحياة المعروض وزينتها وزخرفتها وبهرجتها، لمن جعلها أكبر همه، ومبلغ علمه، وألهته عن الآخرة، هو متاعٌ خادع، وصفقة خاسرة، يدلَّس بها على مشتريها، عاقبتها الندم، فعندما تنتهي صفقته، ويرجع بها إلى داره، يُدرك حينها كيف أنه خُدع وغبن.

التبويبات الأساسية