المنتخب من التفسير -الحلقة 262 - سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (262)

[النساء:134-135].

 

(مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)[النساء:134].

(مَّن كَانَ يُرِيدُ) بعمله أو بجهاده الدنيا وشهرتَها، أو المال والغنيمة، فقد بَخَس نفسه، وقَصُرت همتُه (فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) فإنّه لو أرادَ الآخرة، وخلّص عمله لها، أو جعل الآخرةَ غايتَه الأولى، وحظوظَ الدنيا تابعةً لها، لنالَ الاثنين، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)([1])، وقال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ)([2])، وأينَ ثوابُ الدنيا القليل مِن ثوابِ الآخرةِ الذي لا ينفدُ، وجوابُ الشرطِ (مَن) محذوفٌ، دلَّ عليه ما بعدَه، مِن الترغيب في ثوابِ الدنيا والآخرة معًا، والتقديرُ: مَن كان يريدُ ثوابَ الدنيا فقد بخسَ نفسَه (وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا) بأقوالِ عباده، بَصِيرًا بأعمالهم، فيجازِي كلًّا بما يستحقُّ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[النساء:135].

(قَوَّامِينَ) مبالغةٌ من القيام بالأمر، وأدائه على وجهه، مع المواظبة عليه (بِالْقِسْطِ) بالعدل (شُهَدَآءَ لِلهِ) خبرٌ ثانٍ لـ(كُونُواْ) وأُضيفت الشهادة لله؛ تعظيمًا لشأنها، أي: تقومونَ بالقسط، فتَحكمون به، وتُؤدُّون الشهادة بالحقِّ حالةَ كونِها لله، ولأجلِ مرضاته (وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ) (لو) وصليةٌ، لا تحتاجُ إلى جواب، والجملة حالية، أي: ولو كان الحال في الحكم بالقسطِ على النفسِ بما يُدينها، ويَنتصف، أو يَقتصّ منها لغيرها (أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (أَو) للتنويع، فالحكم على النفس نوعٌ، والحكم على الوالدين والقرابة نوعٌ آخر، ولذا جاءَ العطفُ بين النوعين بـ(أو)، وعُطف (الْأَقْرَبِينَ) على (الْوَالِدَيْنِ) بالواو؛ لأنه داخل النوعِ الواحدِ، أي: ولو أن يقرَّ الشاهد على نفسه بما يدينُها؛ لأنّ الشهادة على النفس إقرارٌ، أو على والديه وقرابته إذا تعينتْ عليه؛ بأن توقفتْ عليها رفعُ مَظلمة، فإنه يؤدِّيها بالحقِّ، ولا يتهربُ منها.

وفائدةُ ذكر الوالدينِ والأقربينَ بعد الشهادةِ على النفس؛ لأن الحاكمَ والشاهدَ قد يدينُ نفسه، إذا كان له مخافةٌ من الله، ولا يصعبُ عليه ذلك، ولا يلومُه أحدٌ، لكن في إدانة الوالدين والقرابةِ يواجهُ الولدُ من الضغوط الاجتماعيةِ، ما قد يعيقُه عن القيام بالحقِّ الذي يريدُه، ولذا خُصتِ القرابة بالذكر بعد ذكرِ الأنفس، والخطاب في (كُونُوا قَوَّامِينَ) عامٌّ لكلِّ مَن ولَّاه اللهُ ولايةً، فهو للقضاة في المحاكم، وللولاةِ فيمن وَلي أمرًا عامًّا من أمور الأمةِ في دواوينِ الحكم، أو خاصًّا برعايةِ فئة أو جماعة، كأهلٍ وأولادٍ، أو محاجيرَ أو صغارٍ، ولرفعةِ منزلةِ العدلِ، وقلةِ مَن يلتزمُه ممن ذكر، ويواظبُ عليه، كان جزاؤه عظيمًا، تشرئِبُّ إليه الأعناقُ، وتتطلعُ إليه النفوس، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا)([3]).

(إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا) اسم (يَكُنْ) محذوفٌ، يفهم من السياق، والتقدير: إن يكن أحدُ الخصوم غنيًّا… إلخ، وقوله (غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا) أي من صنفِ الأغنياءِ، أو من صنفِ الفقراء، أي: فاللهُ أولى بالغَنيِّ مِن حيثُ هو، وبالفقيرِ مِن حيثُ هو، وليس المراد: إن يكن الرجل فقيرًا أو غنيًّا، وإلا لقال: فالله أولى به؛ لأن المتعاطفين بـ(أو) يعاد الضمير عليهما مفردًا، وقوله (فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا) ليس هو جواب الشرط، بل الجواب محذوفٌ، تقديره: فلا تمتنعوا عن القيام بالعدل؛ لأن الله أولى بهما، فجملة (اللهُ أَوْلَى بِهِمَا) تعليلٌ، دل على الجواب المحذوف (فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا) اتباع الهوى منهيٌّ عنه، لأنه خلاف العدل، وقوله: (أَن تَعْدِلُوا) مصدرٌ، يصحُّ جره بحرفِ جر محذوفٍ، تقديره: أنهاكُم عنِ اتباع الهوى، لأجل العدل، ويصحُّ نصبه مفعولًا، بتقدير: أنهاكم عن اتباع الهوى؛ كراهةَ العدولِ عن العدلِ والحق، والآية توجيه عامٌّ، يتعرض لمسألةٍ غايةٍ في الأهمية، تتعلق بأحكام القضاءِ والخصومات، يقول: قد يكون فيكم من تأخذهُ عند الحكمِ أو الشهادة الرأفةُ بالفقير؛ لضعفِ حاله، فيحكُم له أو يشهدُ له؛ رحمةً به لفقره، أو يتحاملُ على الغَني، أو صاحبِ الجاه والسلطان لقوةِ مركزه، فيتحاملُ عليه في الحكم، أو لا يشهدُ له، بحجة أن الغني ماله كثيرٌ، ولا يضرهُ ما أُخذ منه، أو أنّ الفقير لو لم يكنْ مظلومًا ما تجرأَ على خصومةِ صاحبِ المال والسلطان، ونحو ذلك، فهذا كلهُ لا وزنَ له، ولا يلتفت إليه، ولا يُعطى أدنى اعتبارٍ في الحكم بين الخصوم، ثم عَلَّل ذلك بقوله (فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا) كون هذا فقيرًا يُراعَى، أو هذا غنيًّا يُحملُ عليه، ليسَ إليكم؛ لأنكُم لا تعلمونَ الغيبَ، ولستم أرأفَ ولا أعلمَ بما يصلحُهما من الله، فالله أولى برحمة الفقير والرأفة به، وأولى بما مِن شأنه أن يصلحَ من أمر الغَني، فالنظر في الحكم والشهادة إلى فقرِ الفقير وغِنى الغني، مِن اتباع الهوى، فلا تتبعوا الهوى؛ فإنكم إن اتبعتُمُ الهوى ابتعدتُم عن العدلِ وجانبتمُوه (وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) تلوُوا من اللَّي، والماضي لَوَى، أصل معناه: الانعطافُ والانفتالُ، أي: لا تلتفتُوا إلى مثل هذه المؤثراتِ على إقامةِ العدل، كالفقرِ والغِنى، أو تَحسبوا لها حسابًا في الأحكام، أو أداء الشهادة، فإنكم إن تلوُوا في الأحكام؛ بأن تحكموا بالباطل، وتلووا في الشهادة؛ بأن تُؤدوها على غير وجهها، أو تُعرضوا عن الشهادة؛ بالامتناع عنها، أو تعرضوا عن الأحكام؛ بالامتناع عن البتِّ فيها بالمماطلةِ والتأجيل، أو انتقاء القضايا؛ بالنظر في بعضها دون بعض، إرضاءً لهذا الفريق أو ذاك؛ لعرض من الدنيا؛ مال أو منصب، مما يترتب عليه غياب العدل، وتعطيل الأحكام، وهي مفاسد عظيمةٌ، آثارها هرجٌ ومرجٌ، وتداعياتها غايةٌ في الخطورة على حياةِ الناسِ وأمنِهم، لا تقف عند حدٍّ، ولذا ختمتِ الآيةُ بما يتضمنُ الوعيدَ في قوله (فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) مطلعٌ على أعمالكم، خبيرٌ ببواطنكم، فاحذرُوه.

 

[1]) القصص:77.

[2]) الشورى:20.

[3]) مسلم:4748.

التبويبات الأساسية