بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة – 306
[سورة المائدة: 92-94]
(وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيتُم فَٱعلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلبَلَٰاغُ ٱلمُبِينُ)(92)
بعد الأمر باجتناب الأربعة المذكورة في الآية السابقة وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، أمروا بطاعة الله ورسوله أمرًا عاما وبالتحذير من المخالفة، فقوله: (وَاحْذَرُوا) أي مخالفة أمر الله وأمر رسوله والتولي في قوله (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) الإعراض عن الطاعة، أي: فإن أعرضتم عن الطاعة فاعلموا أنكم لن تضروا الله ورسوله شيئا، وما تضرون إلا أنفسكم، فقوله (أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) دليل جواب الشرط، وليس هو الجواب، والتقدير: إن توليتم فما تضرون إلا أنفسكم، فما على الرسول إلا البلاغ، وقد أدى وبلّغ أبيَنَ تبليغ، ووُصِف البلاغ بالمبين مبالغة في أنهم لن يجدوا لأنفسهم عذرا في توليهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بريءٌ منهم، وليس عليه من تبعة في إعراضِهم.
(لَيسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلمُحسِنِينَ)(93)
ورد في الصحيح في سبب نزول الآية، ما رواه أَنَس بْن مَالِكٍ؛ “أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ- أَوْ قَالَ – وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ. فَأَنْزَلَ اللهُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الْآيَةَ”([1])
وهذا يدل على شديد حرصهم وخوفهم من الله تبارك وتعالى على أنفسهم وعلى إخوانهم، وإلا فمعلومٌ أن الله لا يعاقب أحدًا مات على شيء لم يحرم عليه وقت فعله، فالآية دليل قاعدة: أن العقوبة لا تكون بأثر رجعي متقدّم على ورود النص، والآية ليست خاصة بسبب النزول، وإنما يدخل فيها عامة المؤمنين، فإنها تدل على إباحة الطيبات التي أحلها الله تعالى من المطاعم، ولا ينبغي للمسلمين أن يمنعوا أنفسهم منها، فليس الزهد بتحريم الحلال، ولذلك رد الله التبتل على الذين حرموا على أنفسهم ما أحله الله لهم، فالزهد ليس بتحريم الحلال، وإنما أن يكون المرء بما بيد الله أوثق منه بما في يديه.
والجُناح: الإثم، وقوله (فِيمَا طَعِمُوا) في الذي طعموه، ويمكن أن يكون من الطعم بمعنى الذوق، أي: ما ذاقوا، ليدخل الخمر الذي هو سبب النزول، وأن يكون بمعنى أكلوا وتناولوا من الطيبات.
وقوله (إِذَا مَا اتَّقَوْا…) إلخ (إذا) تدلُّ على الشرطية، وليس ما ذكر من التقوى شرطًا في الإباحة المذكورة؛ لأنَّ المباح مأذونٌ فيه لجميع الناس، البرِّ والفاجِر، فتخصيص المتّقين بالذكر لمدحهم والثناء عليهم، لا للتقييد.
وقوله (إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي إذا ما اتقوا الحرام، وثبتوا على الإيمان، وداموا عليه، وجملة (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) من عطف العام على الخاص، لمزيد الاهتمام بالعمل الصالح؛ لأن التقوى تتضمّن الأمرين، اجتناب المنهيات وفعل الطاعات، وقوله (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ثم ترقّوا في منازل التقوى، وازدادوا إيمانا، وهذه الزيادة تستفاد من التأكيد اللفظي بتكرار الأمر، لأن التأكيد اللفظي يدل على تأكيد المعنى، وأيضا من حرف العطف (ثم) لإفادته الترتيب الرتبي، الدال على الزيادة والترقي في التقوى والإيمان.
(ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ثم ارتفعوا في التقوى، حتى وصلوا مرتبة الإحسان، الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)([2])، فمن فعل ذلك صار محسنًا، ومن كان محسنًا كان لله محبوبًا، والظرف (إِذَا مَا اتَّقَوْا) يصلح عند النحاة ظرفا للماضي، كما في قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوۡا۟ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهوًا ٱنفَضُّوۤا۟ إِلَیهَا وَتَرَكُوكَ قَاۤئِما)([3])، فيدخل بذلك في الآية مَن شربوا الخمر وماتوا قبل التحريم، ويصلح ظرفًا للمستقبل، وهو الكثير فيه، فيكون به للعموم، وهنا في الآية تصلح للأمرين، للماضي على ما ورد في سبب النزول، وللمستقبل على معنى: عليهم ألا يحرموا على أنفسهم ما أحل الله لهم، فليس الزهد بتحريم الحلال.
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيدِ تَنَالُهُۥٓ أَيدِيكُم وَرِمَاحُكُم لِيَعلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلغَيبِ فَمَنِ ٱعتَدَىٰ بَعدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ)(94)
هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) روي أنها نزلت في عام الحديبية، حين ابتليَ المسلمون بالصيد، وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، حتى إنهم كانوا يتمكنون منها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم([4]).
وقوله (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) من الابتلاء والاختبار، وهو ابتلاؤهم بالصيد في الحديبية وهم محرمون، وذلك لإظهار مدى صدق إيمانهم، وثباتهم على الطاعة، ودلالة (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) على الاستقبال ظاهرة؛ لأن المضارع إذا دخلت عليه نُون التأكيد حولته للاستقبال، كما في قوله تعالى: (لَتَدۡخُلُنَّ ٱلمَسجِدَ ٱلحَرَامَ)([5])، وعليه تكون الآية وإن نزلت في الحديبية، فالمقصود منها تنبيههم إلى ما سيقع لهم في المستقبل، من الابتلاء بالصيد في الإحرام، وأنهم سيبتَلُون به بعد الابتلاء السابق، أما الابتلاء بغشيان الصيود في الحديبية فقد مضى.
والتنكير في (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) يمكن أن يكون للتنويع، على معنى أن من الصيد ما (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ) كبعض الطير الذي يترامى عليهم، ومنه ما تناله (رِمَاحُكُمْ) كحمر الوحش، ومنه ما تمسكه شباككم وحبالكم، ويمكن أن يكون التنكير للتقليل، على معنى أن ما تختبرون به شيء قليل من متاع الدنيا، وهو الصيد الذي تحبونه، فهو قليل بالنسبة لما عند الله من الابتلاء وعوفيتم منه، ومن لم يصبر في هذا القليل، فكيف يصبر في غيره.
وقوله (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) أي: ليظهر الله باختباركم ما علمه منكم في الأزل، أن بعضكم يخاف أمر الله ونهيه بالغيب، فيصبر على الطاعة، وإن لم ير العقوبة، ومنكم من يضعُف فيتعدى، ولا يكون الغيب رادعا له كالشهادة، وقوله (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) بيان لما يصحب هذا الابتلاء من إغراء، يتطلب عزيمة وصدق يقين يكفُّ النفس إذا ضعفت، فإن الصيد لكثرته وتنوعه بين أخبيتهم، يمكن أن تناله أيديهم بلا جهد ولا مشقة.
(فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) مَن ارتكب ما نهي عنه، واعتدى على الصيد وهو محرم، بعد ما جاءه التحذير؛ فهو متوعَّدٌ بالعذاب الشديد المؤلم، فالإشارة بذلك تعود إلى التحذير، المفهوم من قوله (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) وهذا الوعيد نازل به، إلا إذا تاب وكفَّر بالجزاء الذي أوجبه الله تعالى عليه في قوله (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) وتاب الله عليه.
[1]) الترمذي: 3050.
[2]) البخاري: 50، مسلم: 8.
[3]) الجمعة: 11.
[4]) تفسير ابن أبي حاتم: 6789.
[5]) الفتح: 27.