بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (296)
[سورة المائدة: 61-63]
(وَإِذَا جَآءُوكُم قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِٱلكُفرِ وَهُم قَد خَرَجُواْ بِهِ وَٱللَّهُ أَعلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكتُمُونَ)(61)
أي أنّ المنافقين من اليهود إذا جاءوا مجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنَّا، والحال أنهم جاءوه متلبسينَ بالكفر، وإذا خرجوا منه لم يتغير حالهم، بل خرجوا أيضًا متلبسين بالكفر كما دخلوا، فهم قد دخلوا بالكفر وخرجوا به، ولم ينتفعوا بما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، لقسوة قلوبهم، فالكفر الذي أتوا به إلى مجلسه خرجوا به.
والخطاب في (وَإِذَا جَاءُوكُمْ) للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والجملة عطف على قوله (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) والذين جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم واتصفوا بهذه الصفة من التلبس بالكفر هم منافقونَ من اليهود، كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيظهرون إيمانهم عنده نفاقًا، ففضحهم القرآن بقوله (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) فجملة (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) حالٌ من فاعل جَاؤُوكُم، وكذلك جملة (قَدْ خَرَجُوا بِهِ) والباء في قوله (بِالْكُفْرِ) وفي قوله (بِهِ) للملابسة، وكل من الجارّيْنِ ومجروريهما متعلقٌ بحال من الضمير في الفعل الذي قبله، وهو دَخلُوا (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ) مِن الكفر والنفاق، ولذلكَ فضحهم.
(وَتَرَىٰ كَثِيرٗا مِّنهُم يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلإِثمِ وَٱلعدوَٰنِ وَأَكلِهِمُ ٱلسُّحتَ لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَعمَلُونَ)(62)
الخطاب في (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ) للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل مَن يتأتى منه، أي: ترونَ رؤيةَ عينٍ بالمشاهدة كثيرًا من منافقي اليهود، الذين تقدم ذكرهم قريبًا، وهم مَن (إِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا) تراهم بالإضافة إلى سوءِ المعتقَد (يُسَارِعُونَ) إلى الانغماس في سوء العمل، بارتكاب أنواع (الْإِثْمِ) والمحرمات، من الكذب والربا وأنواع الظلم (وَالْعُدْوَانِ) وقوله (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) من عطف الخاص على العام، والسحت هو الرّشوة، وفي حكمها كل المال الحرام، فهم لا يتورعون عن أكل مال الحرام بأنواعه، وخُصّ السحتُ بالذكر لاشتهارهم به، وما في قوله (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) نكرةٌ موصوفةٌ بمعنى شيئًا، وقعت تمييزًا للفاعل المستتر في فعل الذم بئس، أي: لبئس شيئًا عملوه هذه الأمور، فالمخصوص بالذم محذوف، تقديره: عمِلُوه، دلَّ عليه قوله (مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
(لَوۡلَا يَنهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلأَحبَارُ عَن قَولِهِمُ ٱلإِثمَ وَأَكلِهِمُ ٱلسُّحتَ لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَصنَعُونَ)(63)
ما تقدم في قوله (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) توبيخٌ لعامة اليهود، وما في هذه الآية (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ) توبيخٌ لعلمائهم، الذين سكتُوا عن المنكر، وتركُوا الحسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيانِ الحق، فلا تكرارَ في الكلام، و(لَوْلَا) حرفٌ إذا دخل على المضارع كما هنا – وهو قوله (ينهَاهُم) – أفادَ التوبيخ، وإذا دخل على الماضي كان للحثِّ والتحضيضِ على القيام بالأمر، وَالْأَحْبَارُ هم علماءُ اليهود، والربَّانيون الزهادُ منهم، والإثم والسحت في قوله (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) هو قولُ الكذبِ وأكلُ الحرام، فعلماؤهم سكتُوا عما كان يفعله عامتهم من هذه الآثام، كانوا يجاملونهم من أجل الدنيا، والمأكل والمشرب، والصداقة والمؤانسة (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) لبئسَ الصنيع ما وقعُوا فيه من الصنيع، وقال هنا (يَصْنَعُونَ) وفيما قبله (يَعْمَلُونَ) لأنَّ الفعل الذي يصدر عن فاعلٍ إن كان عن قصدٍ سميَ عملًا، كما في الآية السابقة في المسارعة في الإثم وأكل السحت، فإن حصل الفعل بمزاولةٍ وتكرّر ومِران ودُرْبة حتى رسخَ وتمكنَ، وصار ملكةً، سميَ صنيعًا وصنعةً، ولذا كان ذمُّ خواصهم – وهم العلماء – بما يصنعون أبلغ، فإنَّ تركَ الحسبةِ من العلماء بالسكوت عن المنكر، أقبحُ من مواقعة المعصية، باعتبارِ أفرادِ مرتكبيها؛ لأن السكوت عنها يؤدي إلى التمادي عليها وإذاعتها، فيهلكُ بها الناس.