بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (288)
[سورة المائدة: 41]
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفوَٰهِهِم وَلَم تُؤمِن قُلُوبُهُم وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّٰعُونَ لِلكَذِبِ سَمَّٰعُونَ لِقَومٍ ءَاخَرِينَ لَم يَأتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلكَلِمَ مِنۢ بَعدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُم هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّم تُؤتَوهُ فَٱحذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتنَتَهُ فَلَن تَملِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيـٔا أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَم يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم لَهُم فِي ٱلدُّنيَا خِزۡيٞ وَلَهُم فِي ٱلأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة:41)
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم بأشرفِ أوصافِه؛ الرِّسالة، ولما في النداء بـ(يَا أَيُّهَا) من التفخيم والتعظيم، وذلك لتخفيف وتهوين الأمرِ عليه، مما يكيدُه له المنافقون واليهود، وما يلفقونَه من الكذب والأراجيف، وسبب نزول الآية: (أنّ رجلًا وامرأةً من اليهودِ زَنَيَا، وكانا مُحصَنين؛ فكره اليهودُ رجمهُما، واختلفوا في ذلك، فأرسلوهُما مع جماعة منهم ليسألوا رسولَ الله ، وقالوا: إن أمرَ بالجَلدِ والتحميمِ – أي تسْويد الوجه – فاقبَلوا، وإن أمرَ بالرجمِ فلَا، وهذا من معنى قوله: (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا)، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَحْبَارِهِمْ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ، قَالُوا: يُحَمَّمُ وَيُجْلَدُ وَيُطَافُ بِهِ، فكذبهم النّبي صلى الله عليه وسلم، وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ هُوَ الرَّجْمُ عَلَى مَنْ أُحْصِنَ، فَأَنْكَرُوا، فَأَمَرَهم أن يأتوا بالتوراة، وَجعَلَ بَعضُهم يَقْرَأها وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَحَكَمَ بِأَنْ يُرْجَمَا، فرجَمُوهُما)([1]).
وإتيانهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إمَّا لاختبارِ صدقه، وأنه لو كان يوحَى إليه لعلمَ حكمَ الله عندَهم في التوراة، وهو الرجمُ الذي أخفَوه، وإمَّا لأنهم اختلفُوا في ذلك، وأرادُوا التحكيم بينهم؛ ليخرجُوا من النزاع، مع تبييتِهم مسبقًا واتفاقِهم على ألَّا يأخذُوا بالرجم، إنْ حكمَ عليهم بِه.
(لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) كانوا كلما وجدوا فرصةً يعارضونَ بها الوحيَ، ويشكِّكون في الرسالة، لإظهارِ كفرِهم؛ أسرعُوا إليها، ووقعُوا فيها، ومِنْ في قوله (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ) بيانيةٌ، بينتْ وصفَ الذين يسارِعونَ في الكفرِ، فهُم مَن يقولونَ بأفواهِهم خلافَ ما في قلوبِهم، و(بِأَفْوَاهِهِمْ) متعلقٌ بـ(قَالُوا) وهؤلاءِ الذين آمَنوا بأفواهِهم همُ المنافقون، فإيمانُهم لا يتجاوزُ القول بالأفواه، ولا حقيقةَ له في قلوبِهم، ولَا في أعمالِهم (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا) عطف على قوله (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ) وهم فريقٌ من اليهود، عُطفُوا على المنافقينَ؛ لأنَّ عمل الفريقينِ واحدٌ، وهو البغضُ والمكرُ والإساءةُ لدينِ المسلمين، ولاجتماعِهم على العداءِ للإسلامِ جمعَهم اللهُ تعالى في النارِ: (إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)([2])، وقوله (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: هم سمّاعون، وسمَّاعونَ صيغة مبالغة، تدلُّ على أنّهم يكثرونَ الاستماع لكلِّ ما يؤذِي النبيَّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين مِن الكذبِ، ليبثُّوه ويشيعُوه، والذينَ يفعلونَ ذلك هم اليهودُ والمنافقون([3])، فكِلا الفريقين كثيرُ السماع للكذب من أصله، يحبونه لذاته، وكذلك سماعون له لأجل أن يكْذبُوا، ويضيفوا إليه كذبًا آخر بإشاعته، وقوله (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) خبر ثانٍ مع (سَمَّاعُونَ) الأول، أعيدَ لفظُه للمبالغة، لتدلَّ إعادته على تأكيد كثرة سماعهم، والقوم الآخرون هم مِن اليهود، وكانوا شديدي العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: سمَّاعون لكذبِ قومٍ آخرين، يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقبَلونَ قولهم فيه، وفي إخفاء ما يخفونَه عنه، ومن أوصافهم أنهم (لَمْ يَأْتُوكَ) لم يحضروا مجلسكَ لبغضِهم لك، وقوله (يُحَرِّفُونَ ٱلكَلِمَ) مِن الحرفِ، وهو الطرفُ والجانِب، أي: ومِن أوصافهم أنّهم يحرفون كلام الوحي في التوراة، ويميلونَه عن وجهِه الصحيحِ، ويفسدونه، فلا يبقى ما حرَّفوه في موضعه أو في سياقه، فعملهم قائم على تحريف كلام الله وتحويله، و(مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) أي يحرفونه بعد ورودِه واستقرارِه في مواضعِه التي نزلَ بها، وذلك بإخفائه وكتمِه، وبالتبديلِ والتغيير، وبحملِ معانيه على غيرِ وجهها، إلى غير ذلك من وجوهِ التحريف، وفي آية النساء: (مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ)([4])، وقال هنا (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) والفرقُ أنّ آيةَ النساء في عملِ اليهودِ في تحريفِ التوراةِ بصفةٍ عامة، وتحريفهم فيها متنوعٌ، يعمّ أنواعَ التحريف؛ من التبديل والتغيير والحذف والإزالة والكتمان وإفسادِ المعانِي، وفي آية المائدة (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) السياق في عملِ جماعةٍ منهم، في موضعٍ خاصٍّ من التوراة، وهو رجمُ الزاني، فتغييرهم كان في حكمٍ لا يزالُ في موضعه، لم يزيلوه، وإنما كتموه وأخفَوه (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) هؤلاء الذين لم يأتوك، كانوا يقولون لإخوانهم من اليهود: إذا أفتاكم النبي صلى الله عليه وسلم في الزاني المحصَن بالجلد فاقبلوه؛ لأنه المحرفُ من التوراة الذي نريده، وإن حكم لكم بالرجمِ فاحذروه، ولا تقبَلوه، وكذلك يحذرونَهم من غيره ممّا لم يوافق ما حرفوه وبدلوه (وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتنَتَهُ) وإضلاله وكفره (فَلَن تَملِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيـًٔا) مِن أمرهِ ولو كانَ قليلا، فشيئًا مفعولٌ مطلق، نائبٌ عن المصدر؛ لأنه مضافٌ إلى المصدر تقديرًا، أي: فلن تملك له شيئًا من مِلكٍ ينفعُه، ولو كان قليلا، والتنكير في شيء للتقليل، والمعنى: فمَن يردِ اللهُ إضلالَه لتماديه على العداء لله ورسوله، فلا ينفع معه شيءٌ، ولا أحدَ يستطيعُ ردَّ شيءٍ مما أراده الله، وقضى به عليه، وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأقرع بن حابس: (أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ)([5])، أي: لا أستطيع أن أردَّها إليك، عندما قال الأقرع للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدًا منهم، وقد تقدم الكلام على هذا التركيب في قوله تعالى: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)([6]).
(أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) الإشارة إلى الفريقين؛ المنافقين واليهود، لم يطهر الله قلوبَهم من الكفر، بسببِ إعراضِهم وعنادِهم (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) بالمذلة التي لحقتهم من الهزيمة والقتل (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) بالخلود في النار لكفرِهم ونفاقِهم.
[1]) ينظر أسباب النزول للواحدي: 195.
[2]) النساء: 140.
[3]) وفعلُ السماع يتعدى بنفسه، فتكون لام (لِلْكَذِبِ) للتقوية، فتفيد تأكيدَ سماعهم للكذب، وتصلحُ أن تكون لام التعليل، ويكون معمول سماعون محذوف، أي: سماعون كلامك لأجل أن يكذبوا عليك، في نقله ونشره.
[4]) النساء: 46.
[5]) السنن الكبرى للبيهقي: 13577.
[6]) المائدة:17.