بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (286)
[سورة المائدة:33-34]
إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسعَوۡنَ فِي ٱلأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
أورد البخاري سبب نزول هذه الآية، عند ذكره حديث العرنيين، الذين أسلموا من قبيلتي عُكل وعُرينة، ففي حديث أنس رضي الله عنه قال: “قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانُوا فِي الصُّفَّةِ، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَبْغِنَا رِسْلًا، فَقَالَ: مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلَّا أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللهِ، فَأَتَوْهَا، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ، فَكَحَلَهُمْ، وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِي الحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا، قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ)([1])، فعل بهم ذلك نكالًا ليسمع المشركون بأمرهم، فلا يجرأ أحد بعدها أن يخدع المسلمين بالإسلام ثم يغدر بهم، فهذه العقوبة كانت خاصة بهؤلاء، لأنهم أرادوا حرب دين الله وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم، بإخافته صلى الله عليه وسلم، وتأليب المشركين عليه، فعاقبهم بهذه العقوبة القاسية، التي لم يفعلها مع غيرهم، وترك هذا الحكم في الحرابة بعد ذلك، واستقر على ما جاء في هذه الآية، التي نزلت بعد قصة العرنيين، التي ذكروا أنها كانت في السنة السادسة، وما في الآية حكم عام في كل محارب؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، قال المالكية: الحرابة حَمْلُ السِّلَاحِ عَلَى النَّاسِ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، دُونَ نَائِرَةٍ وَلَا دَخَلٍ وَلَا عَدَاوَةٍ بين المحارب والضحيةِ، فهي قائمةٌ على قطع الطريق، وإخافة الناس، وتهديد حياتهم، وأخذِ أموالهم بالسطو المسلح، ومحاربةُ الله ورسولِه الواردُ حكمها في الآية، محاربةُ المسلمين؛ لأن الله لا يحاربُه أحد، وجعلت محاربتهم محاربةً لله تشنيعًا عليهم، وبيانًا لفظاعة جُرمهم، لأجل تعظيم حرمة المؤمن، وألّا يروع، والسعي في (يَسْعَونَ) هو المشي، ومنه قوله: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ)([2])، ويطلق على الكَسب، ومنه: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)([3]) (فَسَادًا) الفسادُ: إتلافُ الأنفس والأموال، أو القيام بعمل يؤول إلى ذلك، والحرابة من الفساد في الأرض، أي يمشونَ ويسعون في الأرضِ لأجلِ الفسادِ([4])، وقوله (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) هو بيانٌ لجزاء المحارب ومن يسعَى بالفساد في الأرض، وجاءت العقوبة بصيغة تضعيف الأفعال، يقتَّلوا ويصلَّبوا وتقطَّع؛ للمبالغة، حتى لا يأخذ الناسَ في معاملتهم لينٌ ولا رفق، فليس من الرحمة التهاون أو التسامح في عقوبةِ الحد، فقد قال الله تعالى في حد الزاني والزانية: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ)([5])، وقال: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)([6])، وأكدت الآية وقوع عقوبة الحرابة على المحاربين بأسلوب الحصر (إِنَّمَا جَزَاءُ) أي: لا عقوبة لهم غيرها، حتى لا يفكر أحدٌ في استبدالها، أو الاجتهاد بالتخفيف فيها، ومِن في قوله (مِنْ خِلَافٍ) للابتداء، فالتقطيع يبدأ من خلاف، بأن تقع المخالفة في العضو المقطوع، اليد اليمين مع الرجل الشمال، واليد الشمال مع الرجل اليمين، بحيث إذا برئ تُعين اليد الباقية الرجل المقطوعة بالتوكؤ على ما يدعمه؛ لأنها تكون في جهتها، فلا يبقى عاجزا عن الحركة، والنفي من الأرض هو: إخراج الجاني من مكانه إلى مكان ناء، وأبو حنيفة فسره بالسجن، وقال: السجن نفي له، ولا ينفى إلى مكان آخر فيتحول فساده إليهم، وقال الجمهور: لا يلزم؛ لأن من ينفى إلى غير قومه لا تكون له صولة؛ لما يَنزل به من المذلة، واتفق أهل العلم على أن المحارب إذا قَتل يُقتل، ومنهم من قال إذا قَتل يُقتل ويُصلب، والصلبُ أن يشدَّ على الخشبة ويُرمى، وهو قول مالك، أي يصلب ثم يُقتل، والشافعي قال: يقتل ثم يصلب، ومن جعل (أَوْ) للتقسيم في قوله (أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ) جعل لكل نوع من الحرابة نوعًا من العقوبة، فمن قَتل وأخذَ المال قُتل وصُلب، ومن قَتل ولم يأخذ المال قُتل ولم يُصلب، ومن أخذَ المالَ ولم يَقتل قُطع من خلاف، ومَن أخافَ الناس ولم يَقتل ولم يأخذْ مالًا نُفي، ومِن أهل العلم من قال (أوْ) للتخيير، كما في قوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)([7])، فالإمام مخيرٌ في أن يوقع من هذه العقوبات على كل محاربٍ مَا يتلاءَم مع الجرم الذي ارتكبه، وهذه العقوبة القاسيةُ الرادعة؛ لأن الله أراد لهم الْخِزْي والمذلة في الدنيا لفظاعة جرمهم، ولهم مع الْخِزْي في الدنيا عذاب عظيم في الآخرة.
إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبلِ أَن تَقدِرُواْ عَلَيهِمۡۖ فَٱعلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ (34)
استثنت الآية من العقوبة من تاب قبل القدرة عليه، فإذا جاء المحارب من عند نفسه تائبًا، وهو لا يزال في مَنَعة، قبل أن يُضيّق عليه ويحاصر، فإن توبتَه تنفعُه، وتسقطُ عنه الحد، ولا يُعاقب، أما إذا لم يسلمْ نفسه إلا بعد أن يئسَ من النجاة، فلا تفيدُه التوبة، والفاء في (فَٱعلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) للفصيحة، أي إنْ عظمَ عليكم استثناءُ مَن تابَ قبل القدرةِ عليه مِن العقوبة (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فاعلموا أنَّ الله متصفٌ بالمغفرة والرحمةِ البالغة.
ودلّت الآية على أن حدّ المحاربِ لا تسقطُه إلا التوبةُ قبل القدرةِ عليه، ولا يسقطُ بتنازلِ صاحبِ الحق، كما في جرائم القتل الأخرى؛ لأن الحرابةَ لمَّا كانت تهددُ أمن المجتمع بأسرهِ كانتْ حقًّا لله، لا بدّ من إقامتهِ، ولو تركه صاحبه، ومَن أتى تائبًا سقطَ عنه حدُّ الحرابة، ويؤخذُ بما أتلفَه أو سلبَه من أموال الناس؛ لأن أموالَ الناس ظُلامات، لا تسقطُها التوبة، فإذا فعل ذلك وندم قبل القدرةِ عليه، وأدَّى المال، فإنّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ، يتجاوز عنه في الآخرة، وتسقط عنه العقوبة في الدنيا، ومفهومُ الاستثناء (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) أن مَن لم يأتِ قبل القدرة عليه فهو مؤاخذٌ في الآخرة أيضًا، مع عقوبة الدنيا، وهذا المفهوم الذي دلَّ على عقوبة الآخرة عند عدم القدرة، حتى مع إقامة حدِّ الحرابة عليه، لا يتمشّى مع ما هو الراجحُ مِن أنّ الحدودَ جوابر، كما دلَّ عليه حديث عبادة رضي الله عنه: (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)([8])، فيجوزُ أن يكونَ هذا خاصًّا بجريمةِ الحرابةِ لشناعتها، أو أن حدَّ الحرابة يُسقط عنه حقَّ الله، وما يصيبُه من العذاب في الآخرةِ هو لحقِّ العبادِ على ترويعِهم وإرهابِهم.
[1]) البخاري: 6804.
[2]) الجمعة: 9.
[3]) الإسراء: 19.
[4] ) فـ(فسادًا) مفعولٌ لأجله، أو مفعولٌ مطلقٌ، لتضمن معنى السعي معنى الكسب للفساد.
[5]) النور:2.
[6]) المصدر السابق.
[7]) البقرة: 196.
[8]) البخاري: 18، مسلم: 1709.