بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (280)
[سورة المائدة:7-11].
وَٱذۡكُرُواْ نِعمَةَ ٱللَّهِ عَلَيكُمۡ وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذۡ قُلتُمۡ سَمِعنَا وَأَطَعنَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُور (المائدة:7)
أي اذكروا جنسَ نعمِ الله عليكم، فالإضافةُ في (نِعمَةَ ٱللَّهِ عَلَيكُمۡ) للعموم، وهو تذكير للمسلمين بنعمِ الله الكثيرة، وأشملها وأعظمها نعمة الإسلام وميثاقه، الذي واثقَ اللهُ به عباده، وذلك بأخذ العهد عليهم في مواطن كثيرة، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على الناسِ العهدَ والبيعة، بشهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لله ولرسوله وللمؤمنين، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم البيعة على النساء: ألَّا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقنَ، ولا يزنِينَ، ولا يقتلنَ أولادهنَّ، ولا يأتينَ ببهتانٍ يفترينَه بين أيديهنَّ وأرجلهنَّ، ولا يعصينَ في معروفٍ، وأخذَ على الرجالِ ما أخذ على النساء، وقوله (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أي: وافقتم، وأعطيتمُ العهد بالوفاءِ على السمع والطاعةِ، ثم أمرُوا بالتقوى؛ ليحافظوا على الميثاق والعهدِ الذي أخذ عليهم؛ لأنّ الله مطلعٌ على ما في صدورهم، فلا ينجيهم إلا الصِّدقُ.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلقِسطِۖ وَلَا يَجرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعدِلُواْۚ ٱعدِلُواْ هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعمَلُونَ (المائدة:8)
(قَوَّامِينَ) صيغة مبالغة مِن القيامِ بالأمر، أي: يا مَن تحملونَ صفةَ الإيمان، أمركم اللهُ أن تكونُوا قائمينَ بأمرِ الله، وشهداءَ بالعدل، ولا يحملنَّكم بغضُ قومٍ – ولو كانوا كفرةً – على ظلمِهم، ومنعهم من حقّهم، فالعدلُ معهم ومع غيرهم هو علامةُ التقوى، وأقربُ إليها، وخلافُه تعدٍّ وظلمٌ، وبعدٌ عن التقوى؛ فاجتنبوهُ، وعدي (يَجْرِمَنَّكُمْ) بعلى لتضمنِهِ معنى يحمِلنَّكم، والـ(شَنَآنُ) شدةُ البغض، وضمير (هُوَ أَقْرَبُ) يعودُ إلى العدل، المفهوم مِن اعدلوا، والأمر بالعدل بعد النهيِ عن الظلم والتحاملِ، يزيدُ النهي تأكيدًا وشدةً، ولأن العدلَ من الطاعة، والتقوى هي غايةُ الطاعة، فالعدلُ أقرب طريقٍ يبلغُ بكم غايةَ الطاعة، وليس المرادُ أنّ العدلَ أقربُ من غيره للتقوى، وأكدَ الأمر بالتزام العدلِ في ختام الآيةِ بما يتضمّنُ الوعيدَ بأنه عليمٌ خبيرٌ، فيجازي مَن عدلَ على عدلهِ، ومَن ظَلمَ على ظُلمه، وقد تقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة النساء، عند قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)([1]).
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغفِرَةٞ وَأَجرٌ عَظِيمٌ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصحَٰبُ ٱلجَحِيمِ (المائدة:9-10)
بعد التذكير بالنعمِ، والأمرِ بالعدلِ الموصلِ للتقوَى، ذكرَ ما أعطاهُ الله تعالَى للمؤمنينَ مِن الأجرِ العظيم والمغفرة، وما أعدَّهُ للكافرين من عذابِ الجحيمِ في النار، وقوله (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) دالٌّ على المفعولِ الثاني لـ(وَعَدَ) والتقدير: وعدَ اللهُ الذينَ آمنوا وعملوا الصالحات مغفرةً وأجرًا، وأُتي به جملة اسمية (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لإفادةِ الثبوتِ والدوامِ، وكذلك مثله فيما وُعد به الذين كفرُوا ،أي وعدَ الله الذينَ كفروا النارَ، وأُتي بالمفعولِ جملة اسمية (أُوْلَٰٓئِكَ أَصحَٰبُ ٱلجَحِيمِ) ليفيدَ الثبوت والدوام.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعمَتَ ٱللَّهِ عَلَيكُمۡ إِذۡ هَمَّ قَوۡمٌ أَن يَبسُطُوٓاْ إِلَيكُمۡ أَيدِيَهُمۡ فَكَفَّ أَيدِيَهُمۡ عَنكُمۡۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ ٱلمُؤۡمِنُونَ (المائدة:11)
(أَنْ يَبْسُطُوا) أصل البسط المدّ، فبسط اليد أن تبطش، وبسط اللسان أن يشتُم، وقد جُمع بينهما في قوله: (وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوٓءِ)([2])، والآية تذكيرٌ بمزيدٍ مِن النِّعم، التي أنعمَ اللهُ بها على المؤمنين، فمِن نعمه عليهم أنه لم يمكِّن الكافرينَ من التسلطِ على المؤمنينَ والنيلِ منهم، في مواطنَ عديدة، منها في الحديبيةِ وما بعدَها، عندما همَّت قريشٌ أن تغدر بالمسلمين، فكفّ الله أيديهم عنهم، وهو المشارُ إليه في قوله تعالى: (وَهُوَ ٱلَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ)([3])، ومنها في حصار خيبر؛ حاول اليهود التحالفَ مع بعض قبائل العرب، ولكن الله صرفهم، وهو المشار إليه في قوله: (وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ ٱلنَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا)([4])، ومنها أنّ المشركين رأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفانَ قاموا جميعًا إلى الظهر، فلما صلُّوا ندمَ المشركون ألَّا يكونوا أخذوهم على غِرَّة وهم في الصلاة، وهمّوا أن يوقعُوا بهم في صلاة العصر، فكفّهم عنهم بأنْ شرع لهم صلاة الخوف، وقد عصمَ الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يبسطَ إليه أعداؤه أيديهم، فقد حاول يهود بني النضير قتلَه حين جاء يسألهم في أمر دية الضمْري، فقالوا: نعم، اجلس حتى نطعمكَ، فأجلسوه، فعمدَ أحدهم – جِحش، له من اسمه نصيب – إلى رحًى عظيمة ليطرحها عليه مِن أعلى الدار، فأمسكَ الله يده، فنزلَ جبريلُ فأخبره فخرج([5])، ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلَ منزلًا، وعلقَ سلاحه بشجرة، وتفرقَ الناس عنه، فجاءَ أعرابي واخْتَرَطَ سَيفَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي الْيَوْمَ؟ قَالَ: اللهُ عز وجل، وَدَفَعَ جِبْرِيلُ فِي صَدْرِهِ فَوَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: لا أَحَدَ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ([6]).
والامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم بكفّ أيديهم عنه، امتنانٌ على أمته.
[1]) النساء: 135.
[2]) الممتحنة: 2.
[3]) الفتح: 24.
[4]) الفتح: 20.
[5]) الإكليل على مدارك التنزيل وحقائق التأويل للإمام النسفي: 3/19.
[6]) دلائل النبوة للبيهقي: 1064.