بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (257)
[النساء:110-114].
(وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)[النساء:110-111].
(مَن يَعْمَلْ سُوءًا) مَن يفعل قبيحًا يُسيئ به إلى غيره (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بالتقصير فيما يخصُّها من تكاليف، بارتكاب المعاصي، أو الشرك، ثم يتوب ويندم (يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا) سرعانَ ما يقبل الله توبته، ففي قوله (يَجِدِ اللهَ) تأكيدٌ لقَبول توبته، فكأن التوبة لِتحققِ حصولها للتائب، يجدُها تنتظره، وفي معناه قول الباري في الحديث القدسي: (وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)([1])، وقوله صلى الله عليه وسلم في عيادة المريض: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟)([2]) (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا) الإثمُ: كلُّ ذنب يستحق العقوبة، وفيه الكبيرُ والأكبرُ منه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ)([3]) (فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) فجنايته ترجعُ عليه وحدَه، ولا تضرُّ غيره، قال تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا)([4]) (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) فأحكامُه على عبادة بالثواب والعقابِ، هي عن علمٍ وحكمة، لا تُتعقَّب ولا تُستدرَك، كلها صوابٌ، ليس بها خللٌ ولا خطأ (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً) يعمل شيئًا مِن صغائرِ الذنوب، أو خطأ غير متعمد (أَوْ إِثْمًا) أو ذنبًا متعمدًا، يستحقُّ العقاب (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) ثم يتنصل منه، ويرمي به غيره، وينسبه إليه، ويقذفه به (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) فقد أَلصق بنفسه فحشًا من الكذب، بلغَ به الغاية، واقترفَ من الذنوب ما هو بَيِّنٌ في العصيان، لا يَلتبس ولا يختلف عليه الناس؛ لوضوحهِ وشهرتهِ، وذلك بسببِ اكتسابهِ الإثم، ثم رميه على غيره، وإلصاقه به، وهو البهتان، والتنكيرُ في قوله (بُهْتَانًا وَإِثْمًا) للتفخيم والتهويل، وتكرير الجملة الشرطية في قوله (وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا) وقوله بعد ذلك (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا) أيضًا يشعرُ بهذا التفخيم، على حدِّ قولهم: مَن أدرَك الصَّمَّان([5]) فقد أدركَ المرعى، وفي قوله (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) عادَ الضمير مفردًا، وهما اثنان: إثمٌ وخطيئةٌ؛ لأن المتعاطفين بـ(أو) يجوز عود الضمير إلى أحدهما؛ إمَّا على المعطوف كما هنا، وكما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ)([6])، وإمَّا على المعطوف عليه كقوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا)([7])، ويجوز أن يعود الضمير في المتعاطفين بـ(أو) على أحدِ المذكورَينِ غير معينٍ، ويمكن حملُ الآية هنا عليه، أي: ثم يرمِ بأحدِهما بريئًا.
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)[النساء:112-113].
جملة (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) عطفٌ على قوله (وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) والطائفةُ التي همتْ بإضلالِ النبي صلى الله عليه وسلم هم بعضُ بَني أُبيرق، المتقدم ذكرهم، ومَن ناصَرَهم من بني ظفر، أي (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) بعصمتك من الزلل، بما أنزل عليكَ من الكتاب، ولولا (رَحْمَتُهُ) بك مِن أن تعصيَه، لطمعَتْ طائفةٌ من بني أبيرق أَن يُضِلُّوكَ، فـ(لَوْلَا) حرف امتناع لامتناع، إما أن تدلُّ على أن بني أبيرق لم يهموا بما أرادوا من مجادلةِ النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، فيما تعدّوا عليه وجحدوه؛ لعلمهم أنه لا يستجيبُ لهم، وأنّ الذي كان منهم محضُ طمعٍ، طمعوا بذلك منه صلى الله عليه وسلم، فلم يظفروا به؛ لأن الله عَصَمه، وأنزل عليه الوحي وفضحهم، وإما أنّ الهمَّ قد وقع منهم، ولكنه لانتفاءِ أثرهِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدم الاستجابةِ لهم، نُفي وجودُه، وعُدَّ كالعدم (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) ما يقولونه من الزُّور، ويفعلونه من الإثم والسوء، لا يُبعِدُون به عن الهدى والحقِّ إلا أنفسَهم (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ) شيءٍ: منصوبٌ على المصدرية، وهو نكرة في سياق النفي، تفيد العموم، وتأكد العموم بحرف الجر (مِن) أي: لا يضرونك بفعلهم شيئًا من الضرر، أيًّا كان، لا قليلًا ولا كثيرًا (وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أنزل عليك القرآن والوحي بالسنة، فالسنة من الوحي، قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)([8]) (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ) مما أوحاه إليك من الغيبياتِ وغيرِها (وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) فضلُ الله عليك وعلى أمتك، بالنبوة والإسلام والقرآنِ؛ عظيمٌ جليلٌ، يستحقُّ الحمدَ والثناء في كل وقتٍ وحينٍ؛ سبحانَكَ لا نحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسك.
(لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:114].
(فِي كَثِيرٍ مِن نَّجْوَاهُمْ) النجوى تطلق على التناجي، وهو الإسرار في الحديث بين الأشخاص، وتُطلق على القوم المتناجين، مفرده: نَجِيّ كرَضِيّ، قال تعالى: (وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ)([9])، وقوله (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) استثناءٌ من النجْوَى، فإن جُعلت النجوى بمعنى المتناجِينَ، فلا يحتاج الاستثناءُ إلى تقدير، ويكون المعنى: لا خير في المتناجينَ، إلا من أَمَر منهم بصدقة، وإذا جُعلت النجوى بالمعنى المصدريِّ، فيكون في الكلام حذفٌ، تقديره: لا خير في كلام المتناجين، إلَّا ما كان منه أمًرا بصدقةٍ، والضمير في (نَجْوَاهُمْ) يعودُ على عامة الناس، أي: لا خير في كثيرٍ من المناجاة التي تقعُ بين جميع الناس، ومفهومه: أن القليلَ منها هو الذي يكون فيه نفعٌ وخيرٌ، وهو ما جاء التصريحُ به بعد الاستثناء في قوله (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) أي: أَمَر بتفقدِ أحوال المحتاجين والفقراء، أو أمر بـ(مَعْرُوفٍ) وهو كل ما لا ينكره الشرع، مما تعارفَ عليه الناس، واستحسنوه بينهم، من التعاون والخير والرفق والإحسان (أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أو كانَ لإصلاح ذات البين، سواء داخل البيت، أو الأسرة، أو المجتمع والأمة بأسرِها، فإن السعيَ في إصلاحِ ذاتِ البين مِن أعظم القربات، وفسادها من أعظم المفاسد، فهي الحالقة – كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم – التي تَحلق الدِّين، فالآية استثنت مَن كانت مناجاته بإحدى هذه الخصال الحميدة مِن النجوى المذمومةِ، ثم عطفتْ على هذه المستثنيات، ما يدلّ على أنّ الأمر لا يتمُّ إلَّا إذا اقترنَ القولُ بالعمل، مما يشير إلى أنّ مَن تناجى بالصدقة وما عُطفً عليها، واكتفَى بالقول وحدهُ؛ فليس بشيء، وأن العبرة بالأفعال المصاحبة للقولِ، المقرونة بالإخلاص، فلا خيرَ في قولٍ لم يصحبْه عمل، ولا خير في عمل لم تصحبه نيةٌ خالصةٌ.
فقال (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ) أي: ما أَمَر وتَكَلَّم به في نجواه من الخير (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ) قاصدًا رضى الله وحده، لا يبتغي به مدحًا ولا أجرًا من الناس، فسيؤتيه الله من عنده الأجرَ العظيم، الذي لا يُقدّر قدرُه ولا يُعلم كُنهُه، فالثوابُ يتوقفُ على إخلاصِ النياتِ، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرِئٍ ما نَوَى)([10])، ويعظمُ الأجرُ بعِظم الإخلاص، والرياءُ محبطٌ للعمل.
[1]) البخاري:7405.
[2]) مسلم:2569،6648.
[3]) الشورى:37.
[4]) الأنعام:164.
[5]) قَالَ الْأَصْمَعِي: الصَّمّان: أرضٌ غَلِيظَة دون الجَبَل. قلتُ: وَقد شَتَوْتُ الصَّمانَ ورياضها شَتوَتَين، وَهِي أرضٌ فِيهَا غِلَظ وارتفاع، قيعان واسعةٌ وخَبَارَى تُنْبِت السِّدْرَ عَذِية، ورِياضٌ مُعْشِبة، وَإِذا أَخصبت الصَّمانُ رَتَعت العربُ جمْعاء. وَكَانَت الصَّمانُ فِي قديم الدَّهْر لبني حَنْظَلة، والحَزْن لبني يَرْبوع والدَّهْناءُ لجماعاتهم. والصَّمان مُتاخِم للدَّهْناء. تهذيب اللغة للأزهري: 12/91.
[6]) التوبة:34.
[7]) الجمعة:11.
[8]) النجم:3-4.
[9]) الإسراء:47.
[10]) البخاري:1، ومسلم:1907.