بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (241)
[سورة النساء:60-63]
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 60].
الاستفهام في قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) تقريري؛ لأن همزة الاستفهام تدلُّ على النفي، ولَمْ للنفي، ونفيُ النفيِ إثباتٌ، أي قد رأيتَ الذين يزعمون أنهم آمنوا، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل مَن يتأتى منه، والرؤية في قوله (تَرَ) رؤيةٌ علميةٌ (يَزْعُمُونَ) يقولون، ويُستعمل الزَّعْمُ كثيرًا في القول غيرِ المحقق، الذي هو ادِّعاء وكذبٌ كما هنا، ولذا قيل: (زعمُوا مطيةُ الكذِب) (بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) وهو القرآن، زعموا وادعوا الإيمانَ به (وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) التوراة، وجملة (يُرِيدُونَ أَنْ يَّتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ) حاليةٌ، وهؤلاء بعض المنافقين من اليهود، زعمُوا الإيمانَ بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالتوارة، حالةَ كونهم أرادُوا التحاكمَ إلى الطاغوت، يدلُّ لذلك ما ورد في سبب نزول الآية، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنّ منافقًا خاصم يهوديًّا، فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بنِ الأشرف، ثم إنهما احتكمَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكمَ لليهودي، فلم يرضَ المنافقُ بقضائه، وقال: نتحاكمُ إلى عمر، فقال اليهودي لعمر: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرضَ بقضائه، وخاصم إليك، فقال عمر رضي الله عنه للمنافق: أكذلك؟ فقال: نعم، فقال: مكانكُما، حتى أَخرجَ إليكما، فدخلَ فأخذَ سيفه، ثم خرجَ، فضربَ به عنقَ المنافقِ حتى برد، وقال: هكذا أقضِي لمن لم يرضَ بقضاء اللهِ ورسوله) فنزلتْ، وقال جبريل: إنّ عمرَ قد فرقَ بين الحق والباطل، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق، و(الطَّاغُوت) كلّ ما يعبد ويقدَّس من دون الله، ومَا يتحاكمُ إليه الناسُ بالباطل، فالمنافقون يحبونَ التحاكمَ إلى الطواغيت، كالكُهان وغيرهم، ممن يُغالونَ فيهم ويقدِّسونهم، كعظيم اليهود كعب بن الأشرف وغيره، وقد أمرهم اللهُ أن يكفروا بالطاغوت، وبالشياطين التي تُضلُّهم وتأمرُهم بعبادتهم، وأن يتحاكموا إلى الله ورسوله، والضمير في قوله (بِهِ) يعود على الطاغوت، وهو لفظٌ يطلق على الواحد وعلى الجمع، كما قال تعالى في الآية الأخرى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)([1]).
(وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) الجملةُ معطوفةٌ على جملة (يُرِيدُونَ أَنْ يَّتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ) لبيانِ أن التحاكم إلى الطاغوت مما يحبهُ الشيطانُ؛ لأنه يريدُ إضلالَهم، والضلالُ خلاف الهداية، وهو هنا الكفر؛ لوصفهِ بالبعيدِ، ولأنه جُعل معطوفًا على الكفر بالطاغوتِ، الذي أَمر الله بالكفر به، فينوبُه ما ينوبُهُ، أي تَرَكُوا ما أمرهم الله به، واتبعوا خطواتِ الشيطان، فكفَروا.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾[النساء: 61]
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا) أسند الفعل (قِيلَ) إلى المجهولِ ليعُمَّ القائل، أي: إذا قالَ قائلٌ لليهود وللمنافقين منهم، ودعاهم إلى التحاكمِ إلى ما أنزل اللهُ، سواء كان هذا الداعي لهم مسلمًا، أو كان منهم غير مسلمٍ؛ صدُّوا أنفسهم عن سماعه (تَعَالَواْ) فعل أمر جامد من تَعَال، مبني على الفتح، على خلافِ القياس في بناء فعل الأمر على السكونِ، بمعنى أَقْبِلْ، مشتقٌّ من العلوِّ، وأصله طلبُ الإقبال إلى مكان عالٍ، ثم عمَّ في كل إقبالٍ، وهو في معنى النداءِ، الملاحظ فيه التأدبُ في الخطاب، أي: أَقبلْ وأنت عالٍ، غير مأمورٍ ولا مُهانٍ (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ) يُعرضون، وينفرونَ من حكم الله ورسوله (صُدُودًا) مصدرٌ مؤكدٌ لفعله، والمعنى أنهم إذا دُعوا من بعضِهم – كما في سبب نزول الآية – أو مِن أحدِ المسلمينَ مطلقًا، لأنْ يُقبلوا على التحاكمِ إلى ما أنزلَ اللهُ من الكتاب، أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليحكم بينهم، يَصدُّون ويَنفرونَ نفورًا شديدًا، ولا يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أتوهُ وحكمَ بينهم، لا يرضون بحكمه، وهو كفرٌ آخر يضافُ إلى كفرهم.
﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ [النساء: 62]
(كَيفَ) اسم استفهام، وفيه هنا معنى التعجُّب مِن حالهم، الذي استوجبُوا به غضبَ الله، و(إِذَا) ظرف لما يُستقبل من الزمان، أي: كيف يكونُ حالهم إذا نزلتْ عليهم مصيبةٌ من السماء، لا قِبل لهم بها؟! وهو تهديدٌ لهم، بأنهم فعلوا ما يستوجب عذابَ اللهِ، وإنزالَ المصائب عليهم في المستقبل، كما حصلَ لهذا المنافقِ، الذي ضربهُ عمرُ بالسيف، حتى ماتَ الشقيُّ وبردَ، أو بأن يفضحَ الله أمرهم للمسلمين، ويسلطَهم عليهم، ولا يلومونَ حينها إلَّا أنفسهم، فذلك بسببِ كفرهم ونفاقهم، وما قدمتهُ أيديهم (ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ) الجملة معطوفة على قوله: (أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ) و(إِنْ) في قوله (إِنْ أَرَدْنَا) نافية، فهم بعد أن تصيبهم مصيبة بما قدمتْ أيديهم، يأتون ويحلفون معتذرين – كما هي عادةُ المنافقين – على أنهم ما حصل منهم ما حصلَ إلّا بحسنِ نية، وما أتوا إلى الطواغيتِ والكهان – مثل زعيمهم كعب بن الأشرف – إلّا إرادةً للخير؛ ليحصلَ من ذلك التوافقُ والتصالحُ لهم فيما بينَهم، وفيما بينهم وبين المسلمين، ولم يفعلوا ذلك عداوةً للدين، وكرهًا لحكم الله.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾ [النساء: 63]
الإشارة بـ(أُولَئِكَ) إلى مَن تقدم ذكرهم بكاملِ أوصافِهم من المنافقين، وقد وضحُوا للسامع غايةَ الوضوح، حتى كأنهم لوضوحِ أوصافهم يشاهدُهم بالإشارةِ إليهم، فهم وإنِ اعتذرُوا، وتظاهرُوا بالبراءة، وحلفُوا على اعتذارهم، فإنّ الله مطلعٌ على ما يضمرونهُ في قلوبهم من النفاق والكذبِ، والإعراض عن الإسلامِ، والصدِّ عن سبيلِ الله (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أَعرِض مِن الإعراض، مشتقٌّ من العُرض، وهو الجانب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا، فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ)([2])؛ لأن مَن يُعرِض يُوَلِّي من أعرضَ عنه جنبَه، ولا يعطيه وجهَه، بخلاف العَرض ضد الطول، والمعنى: لا تهتمَّ ولا تكثرتْ بهم، ولا تحزنْ لأجلهم، فهذا ديدَنُهم (وَعِظْهُمْ) من الموعظة، وهي الأمر والنهي؛ للإرشاد والنصح، والترغيب والترهيب (وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) الظرف (فِي أَنفُسِهِمْ) يصحُّ تعلقُه بقوله (قُل لَّهُمْ) أي: قُل لهم في أنفسهم ـ خاليًا بهم ـ قولًا بليغًا، يوافقُ مقتضى الحال، حتى يقعَ النصحُ لهم موقعه؛ لأنّ النصيحةَ في الملأِ فضيحةٌ، فلا تحسُنُ إلَّا لمن لم ينفعُ معه الإسرارُ، فمَن لم ينفع معه الإسرار في النصحِ، تُسلك معه كلُّ السبلِ للحدِّ من ضلاله، ولذلك قال نوح عليه السلام: (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)([3])، أو المعنى: قل لهم في شأنِ أنفسهم قولًا بليغًا، سرًّا وعلنًا([4]).
والقولُ البليغُ هو الذي يتمكنُ من قلبِ السامع، فيأسرُهُ ويأخذُ بلُبِّهِ، حتى كأنه سحَرَه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا)([5])، ولكنه سحرٌ حلالٌ، والمعنى أن هؤلاء ـ مع نفاقِهم وكذبهم ـ لا تيأسْ منهم، ذكِّرهم وعِظهم؛ لترجوَ إيمانهم، وليست موعظتك لهم بالموعظةِ العابرة، بل موعظة بليغة، تأخذُ بقلوبهم، وتتمكنُ من نُفوسِهم، موعظةَ الحريص على هدايتهِم ونجاتِهم.
[1]) البقرة:257.
[2]) مسلم:136.
[3]) نوح: 9.
[4]) يصح تعلق (فِي أَنفُسِهِمْ) بقوله (بَلِيغًا) على خلافٍ بين النحويين، في تقدمِ معمولِ الصفةِ على موصوفِها.
[5]) البخاري:5146.