بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (239)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)[النساء:51-57].
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ) استفهامٌ آخر مضافٌ إلى ما تقدم، للتعجيب من خوارِقِ اليهود، وهم قد أُوتُوا الكتابَ كاملًا كما تقدَم، لكنْ لإعراضِهم وتحريفهم قيلَ عنهم: أُوتُوا نصيبًا منه، لا كلَّه؛ فإنّهم مع ما جاءَهم من الكتَاب والعلم به، بلغَ بهم الضلالُ مبلغًا عظيمًا، حتى قالوا – زورًا وبهتانًا – لأجل أن يكسبُوا وُدَّ قريش، وتحالفهم معهم على المسلمين، قالوا: هؤلاء – أي كفار قريش – أهدَى مِن الذين آمنوا سبيلًا، وأقربُ إلى الحق مِن دينِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، قالوا ذلك لأجلِ إرضائِهم (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ) الجِبْتُ: أصله الرذيلُ الذي لا خيرَ فيه، ويطلقُ على الشيطان، وكلّ ما يُعبدُ من دونِ الله (وَالطَّاغُوت) مِن طَغَى، إذا تعاظَمَ وتكبَّرَ، يُطلق على الأصنام، وعلى كلّ ما يُعظَّم من دونِ الله، كالكُهَّان ونحوهم، ووزنُه: فَعَلُوت، زيادة الواو والتاء فيه للمبالغةِ، كجَبَرُوت ومَلَكُوت.
جاءَ في سبب نزول الآية: أنّ زعماء من اليهود، منهم حُيَيُّ بن أخطب، وكعب بن الأشرف، ذهبوا بعد غزوة أحد إلى مكة؛ للتحالفِ مع قريش، فقالت لهم قريش: أنتم أهلُ كتاب، أقربُ إلى دين محمد منَّا، فنخشَى أنْ تغدروا بِنَا، فاسجُدُوا للأصنامِ، حتى نعلمَ صدقَكم، فسجدُوا، فهذا معنى (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) وقوله (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ) اللام لامُ التعليل، وليست صلةً لتعدية الفعل (يقُولونَ)، ولو كانت صلة لكان التركيب: ويقولون للذين كفروا أنتم أهدَى، وقولهم (هَؤُلَآءِ) يريدون كفار قريش، والمعنى: يقول اليهود لأجل إرضاء المشركينَ: هؤلاء كفارُ قريشٍ أهدى سبيلًا من محمد، يقولون ذلك مِن أجل إرضائهم (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) الإشارة لليهود، الذينَ أُوتوا نصيبًا من الكتاب، وقالوا هذا القول الشنيعَ، فكانوا جديرينَ أحقّاءَ بوقوع لعنةِ الله عليهم، والطرد من رحمته، ومَن حقّتْ عليه اللعنةُ أُبعد، وحُرم التأييدَ والتوفيق، فلن تجد له نصيرًا يمنعُهُ من عقابِ الله.
(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) (الْمُلْك) المملكة والحكم والسلطان، و(أَمْ) منقطعة، بمعنى بَلْ، وتُقدر همزةُ الاستفهام بعدها، أي: بَلْ أَكَانَ لهؤلاء الذينَ حقتْ عليهم اللعنةُ، ومُنِعوا من التوفيقِ والتأييد، ملكٌ وسلطانٌ؟ وهو استفهامٌ إنكاري، بمعنى النفي، أي: لَيس لهم شيءٌ مِن الملكِ القائمِ على العدلِ والرشد، والنَّقير: مقدار النقرة الصغيرة في ظهر نواةِ التمرة.
وقد زعمَ اليهود أن مُلك بني إسرائيل سيعودُ إليهم، فأنكرَ اللهُ عليهم ذلك، والإنكار يمكنُ أن يكونَ مسلطًا على الجملة الأولى (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) وحدَها، فيكونُ دالًّا على انتفاء ملكٍ رشيدٍ عنهم، قائم على العدل، أي: ليس لهم نصيبٌ من الملك الرشيد مطلقًا، وتكون الفاءُ في قوله (فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) سببيةً، بينتْ علةَ انتفاء الملك الرشيدِ عنهم، وهي البخل، فالملكُ الرشيدُ والبخلُ لا يجتمعان، ويمكن أن يكون الإنكار مسلطًا على الجملتين؛ الأولى ومعها (فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) لارتباطهما معًا ارتباط الشرطِ المقدّرِ بالجزاء، فتكون الفاء واقعةً في جواب شرط محذوف تقديرهُ: إنْ حصل لهم نصيبٌ من الملك في وقت من الأوقاتِ، على وجه من الوجوه ، فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا، أي لو حصل لهم ملكٌ غير رشيد، قائم على الغصب – كما هو اليوم – لكان البخلُ خلقًا لهم وطبعًا لازمًا، لا ينفكونَ عنه، ولكانوا – لسوءِ طبعهم – مضربَ المثل في البخل؛ لأنهم لا يتحصلُ الناسُ مِن أموالهم – وهم ملوكٌ – على مقدارِ النَّقِير، فكيفَ يكونُ حالهم في البخلِ لو كانوا عالةً فقراء؟
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) (أَمْ) منقطعةٌ بمعنى (بَلْ) كالأُولى للإضراب، والهمزة مقدرة بعدها للإنكار، والإنكار هنا توبيخيّ، وليس في حكم النفي؛ لأن الحسدَ ثابت لهم، غير منفي عنهم، فاليهود ضَمّوا إلى البخل رذيلةً أخرى، هي الحسد، والبخلُ والحسدُ لا يكادانِ يفترقانِ، والناس: النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو هو وأصحابه، أو العرب جميعًا، فهم حسدُوا النبيَّ على النبوة، وحسدوا أصحابه على الإيمان، وحسدوا العرب على خروجِ النبي صلى الله عليه وسلم فيهم (فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) آلُ إبراهيم: إبراهيمُ وبنوهُ وأحفادُه، وحواشي قرابته من الأنبياء؛ كلوط، وموسى، وداودَ، وسليمان، وأنبياء بني إسرائيل، وملوكهم، فحسدُهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإعراضُهم عن نبوته ليس بدعًا، ولا يستلزم نقصًا في رسالته صلى الله عليه وسلم، فالآيةُ تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ ليعتبرُوا فيما نالهم من اليهود بالنبوة في إبراهيم الذي ينتسبُ إليه اليهود، ويَدَّعون أنهم على دينه، وليعتبروا بآلِ إبراهيم من الأنبياء، لاقَوا من أقوامهم ما لاقَوْا، واللام في (الْكِتَاب) للجنس، جنس الكتاب يشمل التوراة والإنجيل والصُّحُف، وغيرها (والْحِكْمَة) النبوة، وآتاهم الله تعالى مع النبوة الملك، فمنهم مَن آمنَ بإبراهيم، ومنهم من صدّ عنه، كما كان مِن أبيه آزَرَ، والنمرود وقومه، الذين ألقوهُ في النار، أو فمنهم، من بني إسرائيل، مَن آمنَ بمحمد صلى الله عليه وسلم، المعبَّر عنه بـ(النَّاس) في قوله (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) كعبد الله بن سلام رضي الله عنه، ومنهم مَن كفَرَ، وكفى لمن صدَّ من هؤلاء وأولئك بجهنم سعيرًا، ستكونُ هي حسبُهم، لا يجدون عنها محيصًا.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا) هذا وعيدٌ عام للكفار، مَن مرَّ ذكرهم من اليهود وغيرهم (نُصْلِيهِمْ) ندخلُهم، وأصل الصَّلْيِ الشَّيُّ بالنار، ومن يُشوَى بالنار يحترقُ جلده، وتأكلُه النار، والجلدُ هو مركز الإحساس، فباحتراقه لا تشعرُ النفس بالألم، ويتوقفُ العذاب، ولذلك قال تعالى (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) كلما احترق جلدُ الكافر بالنار، نبتَ جلدهُ جديدًا سليمًا كما كان؛ ليستمر العذابُ دون انقطاع، ولذلك قال (لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) فهو سببٌ لتبديل الجلود (إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) العزة: المَنَعَة، وتستدعي كمال القدرة، فهو قادر على أن يفعل بهم ما يريد، والحكمة: وضعُ الشيء في موضعه، بتعذيبِ من يستحقُّ العذاب، وتنعيمِ مَن يستحقُّ النعيم.
وذكر تعالى بعد هذا العذابِ لأعدائِه ما أعده للمؤمنين؛ زيادةً في غم الكافرين (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) بالجمع، فهي جناتٌ وليست جنةً واحدة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تدركهم سآمةُ ولا مللُ مَن يتكررُ عليه المنظرُ الواحد (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) نعيمٌ أبدي، ليس له نهايةٌ يخشاها أهلُه، فتكدِّرُ صفوَهم؛ لأن ما ينغصُ نعيمَ الدنيا هو انقطاعُه (أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) مِن كلِّ النواقصِ النفسية كالغضب وسوء الخلق، والبدنية كالشين والأقذار، ليس فيهنَّ ما يكره، وذلك غايةُ الأنس بالأزواج، وهذا في مقابلِ الكفرة، الذين هم في الحميم والسموم، يصلون سعيرًا، هؤلاء المؤمنون الذين يعملون الصالحات، يدخلون (ظِلًّا ظَلِيلًا) الظل الوارف الفينان، المتصل غير المتقطع، فقوله (ظَلِيلًا) مبالغة في وصفه بالظل، فإنهم إذا أرادوا المبالغة في الوصف اشتقوا له من مادته صفة له، كما قالوا: يومٌ أَيْوَم، وليلٌ أَلْيَل، ونَصْبٌ نَاصِب، وظلٌّ ظَلِيل.