بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (236)
(وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا)[النساء:43].
(وَلَا جُنُبًا) عطف على قوله (وَأَنتُمْ سُكَارَى) وأعيدَ معه حرفُ النفي؛ للدلالةِ على استقلالِ الجنبِ بالنهي عن الصلاة وقتَ الجنابة، والتأكيدِ عليه ولو لم يصحبه سكْرٌ، والجُنُب: مَن أصابتْه الجنابةُ، وأصلُ الجنابةِ من الاجتنابِ وهو البعد؛ لأنه يبتعدُ عن الصلاة والمسجدِ ومسِّ المصحفِ، ونحوِه. ويُطلقُ الجُنُبُ على المفرد والجمع، والمذكرِ والمؤنثِ، فيقال: رجلٌ جُنُبٌ، وامرأةٌ جُنُبٌ، ورجالٌ ونساءٌ جنبٌ؛ لإجرائه مجرى المصدَر، ولذا ساغَ عطفُه على الجمعِ في قوله (وَأَنتُمْ سُكَارَى) أي لا تقربوا الصلاة في حالةٍ أنتم فيها سكارَى حتى تعلَمُوا ما تقولونَ، ولا في حالةِ كونكم مجْنِبينَ إلَّا عابرِي سبيلٍ.
والجنابةُ تحصلُ بواحدٍ من أمرين؛ الأول: خروجُ الماء باللذةِ الكبرى مِن رجلٍ أو امرأة، في نومٍ أو يقظةٍ، والثاني: بالتقاءِ الختانينِ، وهو الإيلاجُ.
(إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) مسافرينَ، وهو استثناءٌ من عمومِ الأحوال؛ لأنّ جُنُبًا نكرةٌ في سياقِ النفي، على معنى: لا يقربُ الجنبُ الصلاةَ في حالٍ من الأحوالِ قبلَ أن يغتسلَ، إلَّا في حالِ كونه مسافرًا عابرَ سبيل، وهذا إجمالٌ فصَّلته الآية فيما بعد، في قوله: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) وقوله: (فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ) فإنَّ ذكرَ خصوصِ عابرِ السبيل، وذكر السفر، لِمَا يعرضُ لعابرِ السبيل المسافر من قلةِ الماء غالبًا، فعابرُ السبيلِ المسافرُ الذي يتيممُ هو فاقد الماءِ، أما مَن كان مسافرًا ومعه ماءٌ فلا يتيمم، والآيةُ اكتفتْ بذكر السفرِ لغلبةِ فقدِ الماء عنده، لا لأنّه يتيممُ على كل حال، وفي الآية دليلٌ على أن الجنبَ يتيممُ إذا فقدَ الماء، وأنّ التيمم لا يرفع الحدثَ، وإنما يبيحُ الصلاة؛ لأمرِ اللهِ له بالتيممِ مع تسميته جنبًا، ويجوزُ إعراب (إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) صفةً لجنب، بمعنى: ولا تقربوا الصلاةَ جُنُبًا غيرَ عابري سبيلٍ؛ فعابر السبيل حملهُ الجمهور على المسافرِ، فيجوز له التيممُ على نحو ما تقدمَ، ومِن أهل العلم من فَسَّر عابرَ السبيلِ بالمارِّ، من العبورِ بالمكان، والمرور منه دون مكثٍ فيه، لا خصوص المسافرِ، قالوا: والمراد بالصلاةِ في قوله (لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ) مواضعُ الصلاة، وهي المساجدُ، وعليه حملَ الآيةَ جماعةٌ من السلف، فجوَّزوا للجنب المرورَ من المسجدِ دون المكثِ فيه، وكان ذلك رفعًا للحرج، حيث كانت أبوابُ بيوتِ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم شارعةً في المسجد، فليس لمن يخرجُ من دارِهِ طريقٌ غير المسجد، فخففَ لهم العبور؛ لحاجتِهم إليهِ دونَ المكْث، ثم نُسخَ هذا الحكمُ عند بعضِ أهلِ العلم، بعد أن أَمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تُسدَّ كلُّ الأبواب، فقال: (سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا المَسْجِدِ، غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ)([1])، وعلى هذا جَوَّز الشافعيةُ للجنبِ أن يمرَّ من المسجدِ عابرًا للحاجةِ([2]) (حَتَّى تَغْتَسِلُواْ) الاغتسالُ غايةٌ لنهيِ الجنبِ عن الصلاة، فإذا اغتسلُوا ارتفعتِ الجنابةُ، وحَلَّت الصلاةُ، وهذه الغايةُ تقتضِي وجوبَ الغُسل؛ لأنَّ الصلاةَ لا تحلُّ بدونِه، ولا يجوزُ تأخيرُها، فلزمَ الغسلُ لأجلِها، والمعنى: لا تقربوا الصلاةَ حتى تغتسِلُوا.
وقد فَصَّلت آيةُ المائدة الوضوءَ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)([3])، وفَصَّلت الآيتانِ التيممَ، هنا وفي المائدة؛ لأنّ التيممَ مِنْ خصوصياتِ هذه الأمة، ولا عهدَ للناسِ به مِن قَبل، ففي حديث جابرٍ: قال صلى الله عليه وسلم: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي- وفيه قوله – وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا…)([4])، على حينِ اكتفتِ الآيتانِ بالأمرِ بالغسل، ولم تُبينْ كيفيتَه؛ لأنّ الغسلَ مِن الجنابةِ كان معروفًا عندهم قبلَ الإسلام.
ثم بعد أنْ أمرَ اللهُ بالغسل مِن الجنابة للصلاة، ذَكرَ أصحابَ الأعذارِ، فقدْ لا يجدُ الجُنُبُ الماءَ؛ لسفرٍ، أو لا يقدرُ على استعمالِهِ؛ لمرضٍ، وكذلك ذَكر التيممَ للأحداثِ الناقضةِ للطهارةِ الصغرى، فقال (وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ)، فقوله (كُنتُم مَّرْضَى) وما عطف عليه، جميعهُ في حكم فعلِ الشرط، وجوابُه (فَتَيَمَّمُواْ) فالمرضَى لا يقدرونَ على استعمالِ الماء، وقد لا يقدرونَ على الوصولِ إليه لعجزِهم، فالمرضُ هو السببُ الأولُ للتيمم (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) مسافرين، والمقصودُ عدمُ وجودِ الماء، وهو السببُ الثاني مع المرضِ، وذُكرتْ حالةُ السفر؛ لأنّ فقْدَ الماء يغلبُ في السفرِ دونَ الحضر، فلو فَقدَ الحاضرُ الماءَ، لكان مِن أهلِ التيممِ كالمسافر، وذكرُ السفرِ ليس تكرارًا مع ما تقدمَ في قوله (إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) لأنّه ذُكر هناكَ على وجهِ الاستثناءِ من منع الجنبِ من الصلاةِ حتى يغتسلُوا، إلا إذا كانوا معذورينَ بالحاجةِ إلى العبور، أو كانُوا فاقدِي الماء للسفرِ، فهو حكمٌ خاصٌّ بالجنب، وهنا حكمٌ بالتيمم مطلقٌ، شاملٌ للحدثين: الجنابة، والطهارة الصغرى (أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ) رجعَ من قضاءِ الحاجةِ، التي هي مِن نواقضِ الطهارةِ، وذكر (أَحَدٌ مِّنكُم) في هذا المانع مِن الصلاة دونَ الجُمل الأخرَى، للإشارة إلى أن الذهابَ للحاجةِ يأتيهِ الإنسانُ وحدَه، ويختلي فيه بنفسِه، كما هي عادةُ الناسِ، وما يعْتريهِم فيه مِن الحياءِ، ومنه جاءتْ تسمية المكانِ بالخلاءِ، والغائطُ أصلُه المكانُ المنخفضُ من الأرضِ؛ لأنّ الناسَ لعدمِ توفرِ الكَنيفِ في البيوتِ، كانُوا يُبعِدونَ المذْهبَ، ويَرتادُونَ لقضاءِ الحاجةِ المكانَ المنخفضَ، الذي يُغيِّبُهم عن الأنظارِ؛ طلبًا للسّتر، فعَبَّروا بالغائطِ؛ حياءً مِن ذكر اسمِ الخارجِ نفسِه، ومنهُ الغَيْطُ للبُستان، ثم صارَ الغائطُ مع كثرةِ الاستعمالِ يطلقُ على الخارجِ نفسِهِ، فكان علمًا بالغلبةِ، مِن إطلاقِ المحلِّ وإرادةِ الحالِّ، وهو البَراز (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ) الملامسةُ مِن اللَّمْس، وهو التقاءُ جسمٍ بجسمٍ؛ طلبًا لمعنًى فيهِ، كحرارةٍ أو برودةٍ أو نحوها.
وأهلُ العلم اختلفُوا في اللَّمس، فمنهم مَن يحملهُ على ظاهرهِ، وهم الشافعية([5])، ويجعلُ مجردَ لمس الرجلِ المرأةَ أو العكسَ مِن نواقضِ الوضوءِ مطلقًا، ومنهم مَن يقولُ: هو كنايةٌ عن الجماعِ، كما كَنَّي عنهُ بالمسيسِ والمباشرةِ، كما في قوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)([6])، وقال: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ)([7])، ويرونَ أنّ اللمسَ لا ينقضُ الوضوءَ مطلقًا، وهم الحنفية([8])، ومنهم مَن فصَّل فقال: لا يَنقضُ إلّا لمسٌ وُجدتْ معه الشهوةُ، أو قُصدَتْ، لَا مُطلق لَمْسٍ، وهو الصوابُ؛ لأنّ اللمسَ إنما جعلَ ناقضًا لِمَا يؤدِّي إليه مِن خروجِ ماءِ الشهوة، لا لذاتِهِ، والغالبُ ألَّا يكونَ ذلك إلَّا مع وجودِ الشهوةِ، أو القصدِ إليْها([9]) (فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً) هذا قيدٌ لقوله: (مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) وما بعدَه؛ لأنّ عدمَ وجودِ الماء يعمُّ فقدَهُ حقيقةً أو حكمًا، فمَن لا يمكنُه استعمالُ الماء كالمريضِ، يُعدُّ فاقدًا له حكمًا (فَتَيَمَّمُواْ) جوابُ الشرطِ، أي فالواجبُ التيممُ عند وجود الأسباب المذكورة، والتيمم لغةً: القصدُ، ومنه قوله: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ)([10])، وهو في الشرع: طهارةٌ ترابيةُ، تبيحُ ما كان منعَهُ الحدَثُ (صَعِيدًا طَيِّبًا) مفعولٌ به، والصعيدُ: وجهُ الأرض، وما صعدَ عليها، كالرملِ، والحجرِ، وكلّ ما كان من خلقتها وعنصُرِها، لم تدخلهُ الصَّنعة؛ والطَّيِّبُ: الطاهر (فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) هذه هي الأعضاءُ الواجبُ مسحهَا في التيممِ: الوجهُ، واليدانِ، واختلفَ أهلُ العلم في الفرضِ المطلوبِ مسحهُ من اليدينِ، هل هو كالوضوءِ إلى المرفقين، أو إلى الكوعين([11])، وما زاد على الكوعين فهو سنة؟ فمِن جهةِ اللغةِ؛ لفظُ اليدِ مِن المشترك، تطلقُ على ما بينَ رؤوسِ الأصابعِ إلى الرّسْغِ، وإلى المرفقِ، وإلى الإبطِ، ومن جهةِ السنةِ؛ ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيممَ إلى كوعيهِ([12])، وإلى المرفقين([13])، والأولُ عنه أصَحّ، وهو صلى الله عليه وسلم المُبيِّن لكتابِ الله، وفي الاكتفاءِ منه بالكوعينِ ما يدلُّ على أنّ الزائدَ عليهما سنةٌ، تركه صلى الله عليه وسلم أحيانًا؛ لبيانِ الجواز، والباءُ في قوله (بِوُجُوهِكُمْ) للملابسةِ والإلصاقِ (إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) رفَعَ الحرَجَ، وخففَ عن أصحابِ الأعذارِ، فعفَى عنهم، وغفرَ لهم مَا لا يقدرونَ عليه.
[1]) البخاري: 467.
[2]) الأم: 1/71.
[3]) المائدة: 6.
[4]) البخاري: 335.
[5]) الأم: 1/30.
[6]) البقرة: 187.
[7]) البقرة:237.
[8]) بدائع الصنائع: 1/30.
[9]) وهو مذهب المالكية، والمشهور من مذهب الحنابلة، المدونة: 1/13، المغني: 1/219.
[10]) البقرة: 267.
[11]) بداية المجتهد: 1/74.
[12]) البخاري: 338.
[13]) الموطأ: 91.