بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (231)
(فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)[النساء:34-35].
(فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ) فالزوجاتُ الصالحاتُ مِن صفاتهنّ أنّهنّ (قَانِتَاتٌ) مِن القُنوت، وهو الطاعةُ لله، والخشيةُ منه، المقتضيةُ لطاعة الأزواج، التي أوجبَها الله عليهنَّ في المعروف، كما سيأتي في قوله: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) ومن أوصاف الصالحات (حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ) والغيبُ: كلّ ما غابَ عن الشهادة، فيشملُ في هذا السياق حفظَ السرِّ، فيما يجري بين الزوجين من الحديثِ وغيره، وكلُّ ما يتعلقُ بالزوج وغابَ عنه ولم يحضرهُ، هو غيب يجب حفظه، ومنه حفظُ الزوجة له عند غيبتهِ في نفسِها ومالِهِ، فالمرأة الصالحة حافظةٌ لزوجها في كلِّ ذلك (بِمَا حَفِظَ) حافظةٌ له بأمر الله إياها بالحفظِ، وبتوفيقِ اللهِ لها لذلك؛ لأنها أرادتِ الحفظ، وحرصتْ عليه، فالباء في (بما حفظ الله) للسببية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في مدحِ المرأة الصالحة، حينَ سُئل عن خيرِ النساء بقوله: (مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ؛ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ)([1]).
وكلُّ ما ذكر مما تقدمَ في حقّ الرجل على المرأةِ، هو كذلك مطلوبٌ من الرجلِ لها، ومِن حقّها عليه؛ لقوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)([2])، وهذه الآية مع آيةِ (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) واضحةُ الدلالة، على أنّ دور الرجل والمرأةِ في البيت هو التكاملُ، لا التسلط، وتدلّ على أنّ الشيءَ الذي اختصهُ اللهُ تعالى به، للأسباب التي مرَّ ذكرها؛ هو الرعاية التي دلت عليها آية (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)، وهي لا تعدُو أنْ تكونَ رعاية لتحقيقِ هذا التكامل، وهي المقصود بقوله: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)([3]).
فقوله (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ) مكملةٌ للتي قبلَها، وهي قوله: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) فسببُ النزول فيهما واحدٌ، وهو ما تقدمَ عن أم سلمة، وشكواها للنبي صلى الله عليه وسلم مِن تفضيلِ الرجال على النساءِ، بالغزوِ والميراث، وقد بينتِ الآياتُ الوجه الذي استحقَّ به الرجالُ التفضيلَ.
(وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) مِن النّشوز، وهو العصيان، والترفع على الزوج، وعدم الطاعةِ في المعروف، أصلُه من النَّشز، بفتح الشين وإسْكانها: وهو المكان المرتفع، سمي به ترفعُ المرأة وتعاليها، وإباؤُها على زوجها، كرهًا له دون سببٍ، وقوله (تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) أي تخافونَ عاقبةَ النشوز، والآثارَ المترتبة على التمادِي فيه، بعد وقوعه، مِن فساد العلاقة بين الزوجين، فالعقوباتُ المذكورة في الآية مرتبةٌ على وقوع النشوز بالفعلِ، إذا خيفَ تفاقُمه، وآثاره الضارة على الأسرة، لا على مجردِ الخوفِ من وقوعه، والعقوبةُ عليه يجب التدرجُ فيها على الترتيب الذي ذُكر في الآية، وإن كان العطف بالواو لا يقتضيه؛ لأن الترتيب معلوم من السياق، ومن القرينة العقليةِ، الدالةِ على أنّ الإصلاح لا يكون إلا بالترقي، من الأخفِّ إلى الأشدّ؛ لأنّ الأشدّ لو جعل أوّلًا، ولم يُصلح، فالإتيان بالأخفِّ بعده عبثٌ عديم الفائدة، فيبدأ الزوجُ بالموعظة والنصحِ، ويُبين للمرأة ما لها وما عليها بالشرع، ويخوفها غضبَ الله عليها بعصيانِها، فإنْ أفادت الموعظة، فلا يحتاج معها إلى ما بعدها، وإلا هَجَرَها بترك فراشِها، فلا ينامُ معها في المكان المعتاد، وينام في غيره داخلَ البيت، ولا يهجرها بترك البيتِ بالكليَّة؛ لقوله تعالى (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (… وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ)([4])، ولا يبلغُ الزوج بهجرهِ أربعةَ أشهر مدةَ الإيلاء، والأولى أنْ لا يُجاوزَ به الشهر، كما فعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين هجر زوجاته، وقال: (مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، حِينَ عَاتَبَهُ اللهُ)([5]).
فإن لم يُفدِ الهجرُ، فقد أذنَ اللهُ بالتدرج في التأديبِ، بالضربِ الخفيف غير المبرح، الذي لا يشينُ، والضرب – وإن كان مأذونًا فيه بنص الآية – فإنه خلافُ الأوْلَى بالاتفاق عند أهل العلم، غير مرغبٍ فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم عن الذين يضربون نساءهم: (… فَلا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ)([6]).
(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) الخطاب للأزواج، و(سَبِيلًا) منصوبٌ على نزع الخافض: إذا أطعنكم، فليس لكم من سبيلٍ ولا طريقٍ موصلٍ لأذاهُم، بل يجبُ الرجوعُ إلى حسنِ العشرةِ والإحسان (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) له العلوُّ والكبرياءُ، والقدرةُ المطلقةُ، فينتقمُ ممن تعدَّى وظلمَ.
(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) الخطابُ في قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ) لمن ينظر في الخصام بين الزوجين من الحكّام، وخوف الشقاق المرادُ استحكامُه وتمادِيه كما تقدم، لا مجردُ خوفِ وقوعهِ، والشِّقاق: النزاع المستمر المستحكم، اشتقاقه من الشِّق بالكسر، وهو الجانب، فكأن كل واحد من الزوجين في جانبٍ وشِقّ متباعدٍ عن الآخر، أو اشتقاقه من الشَّق بالفتح، وهو التصدعُ والتشققُ، والضمير في (بَيْنِهِمَا) عائد على الزوجين، بدلالة السياق، وإن لم يجر ذكرهما، وإضافة الشقاق إلى الظرف (بَيْنِهِمَا) على المبالغة والتوسع، كما في قوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)([7])، فلكثرةِ ما يمكرون بالليل والنهار صارَ الليل والنهار كأنهما عين المكرِ، والإضافةُ إليهما أصلها بمعنى (في)، وكذلك (شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) أصله الشقاق في الوسطِ الذي يعيشانه بينهما، فنسب الشقاق إلى الوسطِ نفسه، حتى صار كأنّه الشقاقُ ذاتُه؛ مبالغةً في استحكامِه بينهما، ومنه في القرآن: (هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)([8]).
والخطابُ في قوله (فَابْعَثُوا حَكَمًا) للقضاةِ والحكّام، والحَكَم من يُختار ويُنصَّب للحكم في مسألةٍ خاصةٍ، دون أن تكون له ولايةٌ مِن وليّ الأمر، ففي مسألة الشقاق بين الزوجين يتمُّ اختيار حَكَمين، يُختارانِ مِن قِبل الزوجين، حَكَمٌ من أهل المرأة، وحَكَم من أهل الرجلِ، أي من قرابتهما؛ لأن القرابة أعرفُ ببواطن أحوالهما، وأحرصُ على الوفاقِ بينهما، لكن لو حَكَّما حَكَمين أجنبيين من غير القرابة، مضى حُكمهما عند جمهور أهل العلم، وكان على خلافِ الأوْلى، وعمل الحكمين كعمل القضاة عند الجمهور، لا يحتاجانِ فيما توصلَا إليه من وفاقٍ أو فراقٍ إلى إذنِ الزوجين، خلافًا لمن يَرى أنهما وكيلانِ، فلا يُوقِعان الفراقَ إلّا بإذنِ الزوج (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا) حثٌّ لكلا الطرفين: الحكمَينِ والزوجينِ، على العزم بقوة من بداية الأمرِ على تقريبِ وجهاتِ النظر، وعلى الحرص على الإصلاحِ والتوافقِ، وترك الشقاق، وإخلاص النية في طلب ذلك، فإن الله تعالى وعدَ من صدقتْ نيتُه، وتوجهت إلى الصلح، وتجردَ له، أن يعينَه على التخلصِ مِن الهوَى والضغائن والأحقادِ، ويوفقَه لما يؤلفُ القلوبَ.
والآيةُ أصلٌ في مشروعية التحكيم في الخصومات بصفة عامة، وقاعدةٌ شرعيةٌ جليلةٌ، تدلّ على أنّ مَن عزم على شيءٍ من الخير، وتعلقتْ همتُه به خالصةً، وفقهُ الله، وأرشدَهُ إلى الخير، فوَجدَ ما يريدُ؛ لأن الله تعالى قال (إِنْ يُرِيدَا) فالإرادةُ شرطٌ في تحقّق الجوابِ المترتب عليها (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) بالظواهرِ والبواطنِ، وبالنفوسِ ومَا يصلحُها، فمَن علمَ اللهُ صدقَه، وفاهُ سُؤْله، وأعطاهُ أجرَهُ.
[1]) سنن ابن ماجه: 1930.
[2]) البقرة:228.
[3]) البقرة:228.
[4]) أبوداود:2142.
[5]) البخاري:2468.
[6]) ابن ماجه: 1985.
[7]) سبأ:33.
[8]) الكهف:78.