بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (228)
(يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا) [النساء:28-30].
(يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُّخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) إرادةُ الله فيما شرعهُ لكم متجهةٌ إلى التيسيرِ، ليسَ في أحكامِهِ التي كلَّفكم بها عسرٌ ولا مشقةٌ، بل أتاكُم بحنيفيةٍ سمحة، فيها رحمةٌ وتخفيف، ورفعٌ للحرج، ولِمَا كان واقعًا من الظلم على الضعفاء من اليتامى والنساءِ، في أكلِ ميراثهم والحرمانِ من الصدقات؛ لأن الله عالمٌ بضعف الإنسانِ وحاجته وافتقاره، فلمْ يكلفهُ ما لا يُطيقُ، فأباح له مع المشقةِ ما حرَّمهُ عليه، ومنه نكاحُ الإماء لمن لم يجدْ طَوْلًا إلى الحرائر.
وهذه الآياتُ الثلاثُ – من قوله: (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ) إلى قوله: (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُّخَفِّفَ عَنكُمْ) – أتتْ لتهوينِ الأمرِ على المسلمين، بعد أن فرضَ الله مِن بدايةِ هذه السورة فرائضَ وأحكامًا، أبطلَ فيها كثيرًا مما ألفَهُ العربُ، تتعلقُ بأموالِ اليتامَى، والمواريثِ، وتضييعِ حقوقِ النساء، أبطلَ فيها ما كانوا عليهِ مِن العوائدِ الفاسدة، القائمةِ على الجورِ والظلم، وأكلِ حقِّ الضعيفِ، وحرَّمَ عليهم كثيرًا مما اعتادوهُ، كنكاح زوجةِ الأب، والجمع بين الأختينِ، وغير ذلك مما تميلُ إليه نفوسُهم، وتحريم هذا يشقُّ عليهم، فهوَّن الله ذلك عليهم ببيانِ الحكمةِ مِن هذه التشريعاتِ، وأنه ما شرعَها وبيَّنها لهم هذا البيانَ الشافي الوافي؛ إلّا لِيترقَّى بهم في الفضائلِ وأبوابِ الخير.
والمعنى: إنّ اللهَ فرضَ عليكم الفرائضَ، لا ليحرِمَكُم، أو ليشقَّ عليكم، بل لأنّه يريدُكم أنْ تكونُوا مرحومينَ، منقادينَ إلى شرعهِ وأحكامه، وما فيه صلاحُكم في الدنيا والآخرة، أمَّا المشركون واليهودَ، الذينَ يستحلونَ المحارم، وزوجات الآباء، والأخوات للأب، وبناتِ الإخوة والأخوات، والعمات والخالات، ويتبعونَ شهواتهم المخالفةَ لشرعِ الله، فيحبونَ أنْ تنقادُوا معهم إلى شهواتِهم المحرَّمة، وتميلُوا عن الحق ميلًا عظيمًا، فتحيدُوا عنه بالكلية، وتبعدوا عن طريق الإسلامِ كل البعد، فلا يبقى لكم منهُ شيءٌ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثمان آياتٍ في سورة النساء، هنّ خيرٌ لهذه الأمة مما طلعتْ عليه الشمسُ وغربتْ، هذه الثمان: (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)([1])، و(وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)([2])، و(يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ)([3])، و(إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ)([4])، و( إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ)([5])، و(إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)([6])، و(مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)([7])، و(مَّا يَفْعَلُ ٱللهُ بِعَذَابِكُمْ)([8])([9]).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)
(لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم) أي أموال غيركم، فإن الإنسانَ إنما يأكلُ بالباطل مالَ غيره، لا مالَ نفسِه، والنهيُّ عن أكلِها معناه النهيُ عن الانتفاع بها من كلِّ وجوه الانتفاع، لا خصوص أكلِها، ويستعمل الأكل كثيرًا في النهي عن الانتفاع بالمحرمات؛ لأن الأكلَ هو المقصود الغالب من تملُّكِ الأموال، وأكلُ المال بالباطل: أخذُهُ على غير الوجهِ الذي أحله الله؛ كالربا، والقمار، والظلم، والسرقة، والغصب، والرشوة، والتعدّي على المال العام بالغلولِ، والحيل، والكذب، والتزوير، والخداع (بِالْبَاطِلِ) الباء للملابسة، أي متلبس أكلها بالباطل، والْبَاطِل: الزائلُ الذَّاهبُ، خلاف الحقِّ الثابتِ الراسخِ، وقوله (إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنّ التجارةَ ليست نوعًا من المستثنى منه، وهو أكلُ المالِ بالباطلِ المنهيُّ عنه، بل هي مِن الكسبِ الطيبِ، ومِن أكلِ المال بالحقّ.
وهذه الآيةُ أصلٌ في حرمة الأموال، إحدَى كليات الشريعةِ وضروراتِها الخمس، التي تجبُ المحافظةُ عليها، وأصلٌ كذلك فيما اتفق عليه أهلُ العلم، مِن اشتراط التراضِي في العقود، ويعبرون عنه عندَ عدِّ أركانِ العقودِ بالصيغة؛ لأنها الدالة على الرضا، فالرضَا – الذي هو الأصل في إباحة أموال الغير – مِن أعمالِ القلوب، لا يعرفُ عند وجوده إلا بصيغةٍ تعبر عنه، وخصّت التجارةُ بالذكر؛ لشيوعها، فهي أكثر ما يقصدُ بالكسبِ وتبادل الأموال.
(وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) لا يقتل بعضُكم بعضًا، فهو كقوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ)([10])، حيثُ نُزّلت نفسُ كلِّ مسلمٍ منزلةَ النفسِ ممن يسلمُ عليه، ويدعُو له بالأمان، فكأنه حين يسلم على غيره يسلمُ على نفسِه، وكذلك كأنّ مَن يقتلُ غيره – لفظاعةِ عمله – يقتلُ نفسه، وليس بعد هذا إيثارٌ، ولا ترسيخٌ للمحبة والألفةِ، ولا تحذيرٌ وتنفيرٌ من القتل، ولكن قلَّ مَن يَعتبرُ، وفي النهي عن قتل الغيرِ نهيٌ عن قتلِ النفس بالأَولى، ونهيٌ عن تعريضِ النفسِ للهلاك، بالتفريطِ في أخذِ الأسبابِ لحفظِها، وقد استدلَّ عمرو بنُ العاص رضي الله عنه بالآية بينَ يدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، عندما تيمّمَ وصلَّى بأصحابه، وهو جُنبٌ، في غزوةِ ذاتِ السّلاسل، في ليلةٍ باردةٍ، وقال: خفتُ أنْ أهلكَ، فذكرتُ قول الله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) ولم ينكرْ عليه النبي صلى الله عليه وسلم([11]).
والآيةُ أصلٌ في كليٍّ آخرَ مِن ضروراتِ الشريعة الخمس، وهو حفظُ النفس، ثم توعّدَ اللهُ مَن لم يمتثلْ، فقال (وَمَنْ يَّفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا) الإشارة بالمفرد (ذَلِكَ) إلى المذكور، أي: ومَن يفعل المذكور المتقدّم مِن الأمرين: أكلَ المالِ بالباطل، وتعريض الإنسان نفسَه أو غيرَه للهلاك، حالة كونِ فعله (عُدْوَانًا وَظُلْمًا) عُدوانًا بالتسلط على حق غيره، وظلمًا لنفسِهِ بالتعدي، وهذا قيدٌ في الوعيد، فلا يدخلُ في الوعيد مَن قتل نفسًا بحقها، كمَن يقتلُ قصاصًا، أو يقتلُ نفسًا غير معصومةٍ (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا) السين وسوف تجعل المضارع يدلُّ على الاستقبال، وكلاهما بمعنًى واحد، ولذلك قال هنا: (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا) وفي الآية قبلها: (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)([12])، فتواردَا على مدخولٍ واحد، ونصليهِ مِن الصَّلْي، وهو الإحراُق، ومنه قولهم: شاةٌ مصليةٌ، أي مشوية (وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا) جزاءُ من يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا لا يعسرُ على الله، ولا يحتاجُ منه إلى وقتٍ ولَا كُلفةٍ.
[1]) النساء:26.
[2]) النساء:27.
[3]) النساء:28.
[4]) النساء:31.
[5]) النساء:48.
[6]) النساء:40.
[7]) النساء:123.
[8]) النساء:147.
[9]) هذا الأثر ذكره البيهقي في الشعب (7145)، وغير واحد في كتب التفسير كالطبري والقرطبي، والزمخشري، والشوكاني وغيرهم، وأكثرهم أسنده إلى ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة، وهو غير موجود في بعض النسخ المتداولة من كتاب ابن أبي الدنيا، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لابن جرير في تفسيره، وابن أبي الدنيا في التوبة، والبيهقي في الشعب، ينظر الدر المنثور: 2/493.
[10]) النور:61.
[11]) سنن أبي داود:334.
[12]) النساء: 10.