بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (227)
(وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُم بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَٱللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء:25-27].
(وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) لمَّا كان نكاح الإماء مشروطًا بعدم القدرة على مهر الحرة، فقد يترتب على ذلك نفورٌ وانصرافٌ عن الإماء بالكلية، ويُشعر أنهنَّ مغموصاتُ الإيمان؛ نبههم القرآن -من باب التأنيس- إلى أنَّ الرقيق والأحرار بعضُهم من بعض، كلهم لآدمَ، وآدمُ من تراب، والتفاضلُ بينهم هو بالتقوى والإيمان: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)( )، وهذا مما يختصُّ الله بعلمه، والله أعلم بإيمانكم، قوةً وضعفًا، زيادةً في الإخلاص ونقصًا، فهو أعلم بمَن اتقى؛ لذا عليهم في كل الأحوالِ ألَّا ينسَوا الإيمان الذي يجمعهم، فقد تَفضُلُ الأمَةُ فيه الحرةَ فتسبقُها، وتعوِّض ما فاتها بالرقِّ بما كمُلَت به مِن الإيمان (فَانكِحُوهُنَّ) الأمر بنكاح الإماء هنا -المقيدُ بإذن أهلهن- للوجوب، وليس للإباحة (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) السيد المالك للأمَة، هو الذي يتولى تزويجها، فلا تنكحُ إلا بإذنه، فالباء في قوله: (بإذن) للسببية، فنكاحها بسببِ إذنه (وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) الأجور: المهور، أُمرَ مَن يتزوج الأمة لعدم قدرته على الحرة أن يعطيَ المهر للأمَة، لا لسيدها، مع أنها وما تملكُه للسيد؛ إشعارًا بأنه حقهنَّ، وأن السيد يجبُ أن يجهزَها به؛ لأنها المنكوحة، ولذا قال مالك: “يسلمُ لها كما هو ظاهر الآية”، والقول الآخر: يُعطَى المهرُ للسيد، من جهة أنه المالك لها، ولا تزوجُ إلا بإذنه، وإسناده إليها في قوله (وَءَاتُوهُنَّ)؛ ليعلم السيد أنها هي المستحقةُ له، وقوله (بِالْمَعْرُوفِ) بالعدلِ ومهرِ المثل، وبالرفقِ الذي تعرفونَه، وتحصل لكم به الألفةُ، دون مماطلة من الزوج في الدفع، ولا نقصان في القدر، وذلك حالة كون الإماء (مُحْصَنَاتٍ) عفيفات (غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) غير مشتهرات بالزنا مع القاصي والداني، يَفجُرنَ مع مَن يأتيهنَّ (وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) الأخدان: جمع خِدْن، وهو الصَّدِيق، تتخذه المرأة لنفسها في السرِّ، تختصُّ به لا يشاركها فيه غيرها، والمعنى ولا متخذة الواحدةُ منهنَّ خَلِيلًا واحدًا تسارِرُه، لا تسمحُ لغيره، ومن باب أوْلى في النهي إذا اتخذتْ عددًا مِن الأخدان.
(فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ) (فَإِذَا أُحْصِنَّ)( ) أي تزوجن، ولم يعدْن أبكارًا (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ) بأنْ زنينَ بعد التزوج (مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ) أي الحرائر (مِنَ الْعَذَابِ) الحدّ، كما قال تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)( )، والمعنى: فمَن أتى الفاحشةَ من الإماء، وكنَّ متزوجات، فعليهن نصفُ الحدِّ الواجب على الحرائر، فدلت الآية على أن الأمةَ الثيب إذا زنَتْ لا تُرجم؛ لأن الرجم لا يتنصَّف، والذي يتنصفُ هو الجَلْد، وما دام الرجم لا يتنصفُ، فيُرجع بهنّ إلى ما يقبل التنصيف، وهو جَلد البكر الحرة مائة جلدة، فيكون حد المتزوجة من الإماء إذا ارتكبت الفاحشةَ خمسين جلدة، وليس الرجم.
(ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) الإشارة (ذلكَ) إلى نكاح الإماء، والعنت: المشقة الشديدة، والمراد مشقة العزوبة التي يخافُ منها الزنا، وأصل العنت انكسار العظم بعد جبره، واستعمل في لازمه، وهو الضرر والمشقة، وهذا شرطٌ آخر لنكاح الإماء، الأول: عدم القدرة على مهر الحرة، والثاني: الخوف على النفس من الزنا بتركه.
(وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ) نكاح الإماء، حتى مع توفر شرطه، خلاف الأولى؛ لأن الرجل يتزوج امرأة يتحكم فيها غيره، ويُعرّض أولادَه للرقّ الذي لا يحبه الإسلام، فصبركم إلى أن تقدروا على الحرائر خيرٌ لكم من نكاح الإماء (وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ومَن لم يقدر على أن يصبر، وتزوج الأمة مع الحاجة، وتوفر شرطُ النكاح، فإنّ الله غفور رحيم، يتجاوز عنه.
(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) اللام في لِيبينَ للتعليل( ) (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) سنَن الهدى والرشاد، يريدكم إليها، كما أرشدَ مَن قبلكم من أُمَم الرسالات (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) التوبة معناها الندم، والعزمُ على عدم العَوْد، وهذا على الله محال، فإسنادها إلى الله على معنى قَبولها من عباده، ورحمته بهم، أي: يريد قَبول توبتكم (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عليم بما يصلح عباده في حالهم ومآلهم، حكيمٌ فيما فرضه عليهم من تشريعات وأحكام.
(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَّتُوبَ عَلَيْكُمْ) كُرر الفعل (يُرِيدُ) ليُرتّب عليه الفرق بين ما يريده الله بعباده، وما يريده أعداؤُه بهم، فالله يريد أن يتوب عليهم؛ أن يرغبهم في التوبة، ويحببها إليهم، فتوبة الله عليهم هنا يُراد منها بعثُهم على التوبة، وحثُّهم عليها؛ لأنها جاءت في مقابلة قوله (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ) أي في مقابلة ما يريده أعداء الله مِن اتباع الشهوات، والميل عن الحق ميلًا عظيمًا، وبذلك لا تكون التوبة التي يريدُها الله في الآية الثانية (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَّتُوبَ عَلَيْكُمْ) تكرارًا للتوبة بمعناها في الأُولى، في قوله (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) وإسناد الإرادة إليهم في مقابل إرادة الله، من باب المشاكلةِ والمجانسةِ في اللفظ، وإلا فحقيقةُ أمرهم أنهم يحبونَ أن تَميلُوا، وليس لديهم قدرة أكثرُ من ذلك.