بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (208)
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)[آل عمران:180-182].
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ) البخل: منع بذل المال من غير عوض()، والآية معطوفة على قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) فهي مثلها، الكلام فيها عن المنافقين، الذين يبخلون بأموالهم، ويمتنعون عن الزكاة والإنفاق في سبيل الله، فلا يظنّ هؤلاءِ أنّ بخلهم بالمال سيعود عليهم بالخير، كما يتبادر عادة للبخلاء أنهم إذا منعوا المال واستبْقوه لأنفسهم (خَيْرًا لَهُمْ) أي عدوه نماء للمال وتكثيرًا له (بَلْ هُوَ) أي البخل الذي دلّ عليه الفعل يَبْخَلُونَ (شَرٌّ لَهُمْ) ستكون عاقبته شرًّا لهم، لما يجلبه عليهم مِن الذمّ ومحقِ البركة في الدنيا، ومِن الحسابِ والعذاب لمنعهم حق الله فيه فإنهم (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يطوقون مِن الطّوق، وهو ما يُلبسُ في العنق وما تحته، والمعنى: إنّ الذين يبخلون بأموالهم ولا يؤدّون حقّ الله فيها، يلازمُهم العذابُ ملازمةَ الطوقِ للعنقِ، فلا يقدرون عنه انفكاكًا، وفي المثل لمن يرتكبُ القبيح يُقال: تقلدَهُ طوق الحمامةِ، كنايةً عن ملازمته له، أو المعنى: إن أموالهم التي بخلوا بها تُجعل أطواقًا من نار يلبسونَها، كما يُلبس الطوق، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)()، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ)() (وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الميراث: مصدر كالميعاد، والمعنى أن ما يتوارثه النَّاس مِن الأموال ويبخلون به هو ملكٌ لله، فهم وإن بخلُوا بأموالهم فسيتركونها صاغرين، فإنّ الملك الدائم لله وحده، فهو المالك والوارث، الذي يستمر ملكه بعد هلاكِ الناس ولا يزول، فالذين يبخلونَ ولا ينفقون في سبيل الله، هم يبخلون عن الله بمالِهِ، فهو غني عنهم وعن أموالهم، وهم الفقراءُ إليه.
(لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) هذا مِن قول اليهود، نزلت الآيةُ في بني قينقاع، حين قال لهم الصدِّيق: مَن ذا الذي يقرضُ الله قرضًا حسنًا؟ فقال أحدهم: إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء، فلطمه الصدِّيق، فاشتكاه اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنكر أنه قال هذا القول القبيح، فنزلت: (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ)() والإخبار بسماعِ اللهِ قولَهم جاء مؤكدًا بقد واللام؛ لأنهم أنكروه، وتنصّلوا منه، والإخبار به يتضمن تهديدًا لهم عن قولهم الآثم، بقرينة قوله (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) وليس هُو كما في قولك: سمع الله لمن حمده، فإنه يتضمنُ الوعد بالثواب، بقرينة ذكر الحمد (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) ستكتبه الحفظةُ في صحائفهم وسيئاتِ أعمالهم حقيقةً، والتعبير بالمستقبل في قوله (سنكتبُ) يدلّ على أنه لن يصفحَ عنهم، وسيجدونَه محضرًا، والسينُ تفيد مع الاستقبالِ التأكيدَ، وليس هذا القول الذي قالوه هو كلّ ما عندهم مِن المخازِي، بل ضمُّوا إلى ذلك قبائحَ أخرى كثيرة، منها: قتل أسلافِهم لأنبيائهم بغير حقٍّ، وتقدمَ الكلامُ عليه في آية البقرة في قولهِ: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)()، وفي أول هذه السورة في قولهِ: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ)() (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) في النار، والجملة عطف على (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) والآية تفيد القطع بعقوبتهم، وعدم التجاوز عنهم، لأن الله أمر بعذابهم، وبكتابة ما قالوه عن الله في صحائفهم، و(ذُوقُوا) من الذوق، أصله: إدراك الطعوم بواسطة الفم، فيما بين الشفاه واللهاة، ويتوسع فيه، فيطلق على كل محسوسٍ على الخير، كما في ذوق الأمن والسلامة، أي الإحساس بهما، وعلى الشرّ كما في ذوقِ العذابِ، وصيغة الأمر فيه للإذلال والهوان، والإضافة في (عَذَابَ الْحَرِيقِ) بيانية، أي: العذاب المحرقُ للأجساد، المقطع للجلود، وعبر عن حلول العذاب بهم بفعل (ذُوقُوا) ليشعر أن إحساسهم بألم العذاب لا ينقطع، فهم في تذوق مستمر للعذاب.
(ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) الإشارة بـ(ذَلِكَ) إلى العذاب، والباء في (بِمَا قَدَّمَتْ) للسببية، فسبب العذاب أمران: بما عملته أيديهم من الكفر، وبسبب أنّ الله ليس بظلام للعبيد، يجازي كلّ أحد بما يستحقّ، وخصَّت الأيدي بالذكر؛ لأن أكثر الأعمال تزاول باليد، أو من باب التعبير بالجزء عن الكل، فاللهُ يجازي كلَّ أحد بما يستحقّ على كلّ ما عمله، وليس فقط عمَّا عمله بيده (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ظلَّام صيغة مبالغة مِن الظلم، وإذا نفيت المبالغة في جنبِ الله اقتضتْ نفي أصلِ الظلم عنه، فهي بمعنى اسم الفاعل، الذي نفيه ينفي الظلم من حيث هو، كما يقول القائلُ: لستُ بمنَّاعٍ للخير ولا شرَّابٍ للخمرِ، فإنّه لا يدلُّ على وقوعِ قليلِ منع الخيرِ أو شُربِ الخمرِ منه.