المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (189)
(هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران:119-120].
(هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ)([1]) هذا التركيب: (ها أنتم أولاء) مِن أساليب التعجب، كما تقدم في قوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)([2])، والتعجب هو مِن محبة وموالاةِ فريق من المؤمنين للمنافقين اليهود، عندما كان المسلمون ضعفاء في أول الهجرة؛ اتقاء شرهم، والمعنى: على الرغم مِن تحذيركم من موالاة هؤلاء المنافقين من اليهود، وتبصيركم بعداوتهم لكم؛ ها أنتم تخطئون، وترتكبون المحظور، تحبونهم، والحال أنهم لا يحبونكم، فمتى يستيقظ مَن يوالونَ الأعداء في أيامنا، ويسلمونَ أوطانهم لأعدائهم، بلعاعةٍ مِن الدنيا؛ حفاظًا على مكاسبهم التي وعدوهم بها، أو على عروشهم، بحجةِ أننا ضعفاء، لا قدرة لنا عليهم، عجبًا من أمركم؛ تحبونَهم ولا يحبونكم، وقد خيّركم الله عليهم، وفضلكم بالإيمان، فأنتم تؤمنون بالكتاب كله، وهم يفرقون بين الكتب المنزلةِ، يؤمنون ببعضٍ، ويكفرون ببعضٍ.
فجملة (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ) معطوفةٌ على (تُحِبُّونَهُمْ) والكتاب (اَلْ) فيه للجنس الذي يعمُّ كل الكتب، المنزلة مِن السماء، أي: أنتم تؤمنون بكل الكتب، بما فيها كتابهم([3])، وهذا زيادة في التعجيب مِن حالكم معهم، فأنتم تحبونَهم وتؤمنون بكتابهم، وهم يبغضونكم ولا يؤمنون بكتابكم (وَإذا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا) إمعانًا في خداعكم؛ إذا لقوكم تظاهرُوا أنهم معكم، وعلى دينكم، كما يقول عملاؤهم اليوم زورًا وبهتانا: لا فرقَ بين الأديانِ، وأنها كلها ديانةٌ إبراهيمية، وهم يعلمون بينهم وبين أنفسهم – هم ومَن يفتونَ لهم اليوم مِن علماء السوء – أنهم كاذبون (وَإذا خَلَوْا) أي: إذا انفردوا بقومهم من اليهود، وأمِنوا اطلاعكم عليهم (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) العضُّ: الشدُّ بالأسنان على الأنامل ورؤوس الأصابع، والغيظ: الغضب والكراهية، وهو تصويرٌ لحقيقة حال المنافقين من اليهود، وما كان يصيبهم من الكرب والغمِّ لِمَا يرونَه من التئام أمرِ المسلمين، وحسنِ أحوالهم، والإنسانُ عندما يشتاطُ غيظًا تصدرُ منه أفعالٌ يتوهم التنفيسَ بها عن نفسهِ، كعضِّ أصابعهِ، والضربِ بكفيه، وعلى فخذيه، وكقرعِ سنه عند الندم (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) الخطاب يعمُّ كلّ واحدٍ منهم ساءَهُ إلْفُ المسلمين وحُسنُ حالهم، وهو دعاءٌ عليهم بأن يدومَ بهم هذا الحالُ من الغيظ وضيقِ الصدر، حتى يموتوا عليه، ودوام غيظهم يلزمُ منه دوامُ حسنِ حال المسلمين، وقوة الإسلام، وظهور أمره؛ لأن دوام الحسدِ الواقع على المحسود معناهُ دوامُ نعمته؛ لذا كنَّتِ العربُ على صاحب النعمة فقالوا: فلانٌ محسَّد، ولا تعارضَ بين كون الجملة خطابًا لهم ودعاءً عليهم في الوقت نفسه، والمخاطب في الدعاء هو الله، لأن الخطابَ على معنى: أماتكم الله بغيظكم، كما في: قاتلَكَ الله، ودامَ عزك، ونَمْ قريرَ العين، ونحو ذلك (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) فلا يخفى عليه حال مَن يتظاهر بالإيمان بأنهم معكم، وقلوبهم يملؤها الكفر والغيظ والحسد.
(إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) المسُّ: اللمس الخفيف، وعبر به فيما ينالُ المسلمين من الخير، وعبر بالإصابة فيما ينالهم من السوء؛ للدلالة على إفراطِ المنافقين في كرههم، فالمسُّ القليلُ من الخير يسوؤهم، والإصابة البالغة من السوء لا تحركُ قلوبهم، فما دونها بالأوْلى، وهذا غايةُ الحقد والحسد (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) الخطاب للمؤمنين: إن تصبروا على أذاهم وعلى ما أصابكم مما لا تحبون، وتتقوا الله، وتلزموا الاستقامة، وتتقوا كذلك موالاتهم، والميلَ إليهم، وتحذروهم (لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) فسيكفُّهم الله عنكم، ويكفيكم كيدهم ومكرهم، بطاعتكم لله الذي نهاكم عن موالاتهم، ولن يضروكم شيئًا، وإن كانوا أقوى منكم، وهذا تعليمٌ من الله للأمة، بأنْ يستعينوا على كيدِ العدوِّ بالصبر والتقوى، ولا يستسلموا، وأن يتذرعوا مع أخذ العدة بالصبر على المكاره والتقوى، بالحفاظ على حدود الله؛ لكونها مِن الطاعات التي ترضي الله، وبها يكونون في كنفِ الله وحمايته، مِن أن يضرهم كيدُ عدوهم، فهم يحسدونكم على طاعة الله، وقد قالوا: إذا أردتَ إرغامَ الحاسدِ وردَّ كيدهِ فازدَدْ فضلًا في نفسك، فكلما ازددت فضلًا في نفسكَ ازدادَ هو احتراقًا بنار الحسد (إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) على قراءة (تَعْمَلُونَ) بالتاء يكون الخطاب للمسلمين، الله مطلعٌ على ثباتكم واستعانتكم على عدوكم بالصبر والتقوى، فينجزُكم وعدَه، وعلى قراءة (يَعْمَلُونَ) الخطابُ لعدوكم، فهو محيطٌ بهم إحاطةً ليس منها مهربٌ، فلن يفلتوا من عقابه.
[1]) (هَا) حرفٌ يؤتى به في الكلام لتنبيه المخاطب، و(أَنْتُمْ) ضمير خطاب للمؤمنين، و(أُولَاءِ) اسم إشارة يعود إلى المؤمنين أيضا، و(تُحِبُّونَهُمْ) جملة حالية، والعامل فيها ما قبلها، وهو اسم الإشارة؛ لما في الإشارة من معنى الفعل، وجملة (أَنْتُمْ أُولَاءِ) مبتدأ وخبر، وصح الإخبار فيها – والمبتدأ والخبر بمعنى واحد – لما تضمنه اسمُ الإشارة من اتصافهم بالصفة التي نهاهم عنها القرآن، وهي اتصاف المؤمنين بقوله: (تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) فالإخبار هو عن حال المؤمنين العجيبة وهي مودتهم المنافقين، التي دلَّ عليها (تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ).
[2]) آل عمران: 66.
[3]) كُلِّهِ: تأكيد بالمفرد للكتاب، بمعنى الجميع على لفظه.