بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (183)
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)[آل عمران:106-109].
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) متعلق بما قبله، أي: لهم عذاب عظيم حاصلٌ وكائنٌ يومَ تبيضُّ وجوه، ويصح تعلقهُ بفعل محذوفٍ، تقديره: اذكر أيها المخاطَب يومًا تبيض فيه وجوه، والبياض والسواد صفتان تتصف بهما الوجوه يوم القيامة، فوجوه المؤمنين نيرة مسفرة مبيَضّة مستبشرة، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، ووجوه المجرمين مسودة مظلمة كالحة مغبرة، ترهقها قترة، قال تعالى: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا)([1])، وقدّم الوصف لوجوه المؤمنين تشريفًا لهم، ولتزداد حسرةُ الكافرين بما أصابهم، بعد ذكر حال المؤمنين، ثم في التفصيل عكسَ الحال، فجاء على طريق اللفِّ والنشرِ غير المرتَّب، فبدأ بحال مَن اسودت وجوههم تعجيلًا بمساءتهم، وليجتمع في الآية حسن المطلع وحسن الختام والمقطع، وفي التفصيل طيٌّ لبعض الكلام، حذف إيجازًا للعلم به من المقام، تقديره: فأما الذين اسودت وجوههم فهم الكفرة أصحاب النار.
(فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ)([2]) القائل القائل للذين اسودت وجوههم أكفرتم الملائكةُ، والاستفهام في (أَكَفَرْتُمْ) للتقريع والتوبيخ، والمقول لهم (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) قيل: جميع الكفرة، فكل كافرٍ يُعَدُّ كافرًا بعد إيمان، ويقال له ذلك؛ لأن الله أخذ العهدَ على الناس وهم في صلب أبيهم آدم: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ)([3])، وقيل: هم أهل الكتاب؛ لأنهم كفروا بعد إيمانهم بموسى وعيسى، فحرفوا كتابهم، وألَّهُوا أنبياءهم، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هم من ارتد عن الإسلام في هذه الأمة، مِن عهد الصدِّيق رضي الله عنه وهلمّ جرًّا، فكلُّ الفِرق من أهل الأهواء – جماعات أو أفراد، مَن صدر منهم لفظ صريح في الكفر، أو دلّت معتقداتهم عليه دلالة بيِّنة – يقال لهم هذا القول: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، كالرافضة، وغلاة الشيعة الذين حرفوا القرآن، وغالوا في علي رضي الله عنه فجعلوه النبي، ومن ادعوا النبوة لرؤوسهم؛ كالبهائية والقاديانية، ويدخل فيهم من لا يرضى بشرع الله وحكمه، من العلمانية الذين يرون أن الشريعة لحكم الآخرة فقط، ولا تصلح لحكم الدنيا في الحياة المعاصرة، ومَن يسب لفظَ الجلالة أو النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أو يسبّ الدين، أو يستهزئ به، فالآية تعم كل مَن ذكر، وغيرهم ممن فعل فعلهم، وعلى أهل الأهواء مِن هذه الأمة حملَ مالكٌ الآية، ورواه عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحمْلُها على كل مَن كفرَ بعد إيمانٍ مِن جميع الأمم أوْلى؛ لأنه الذي دل عليه عمومُ اللفظ، وفعلُ الأمر في قوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) لإظهار هوانهم وإذلالهم، وإلا فهم يذوقون العذاب، لا يحتاجون إلى أمرهم بذلك، والباء للسببية، فيقال لهم ذوقوا العذاب بسبب ما كنتم عليه من الكفر، وفيه إشارة إلى أن كل مَن كفر يقال له هذا القول، وإنْ كان لمن كفر بعد إيمان زيادة عذاب وهوان.
(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) ما تقدم جزاءُ مَن اسودت وجوههم، وأما حال وجزاء من ابيضت وجوههم (فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) هذا جواب أمَّا، ورحمة الله: جناته ورضوانه، لمقابلتها بعذاب جهنم لمن اسودت وجوههم، وحكم عليه بالخلود في العذاب.
(تِلْكَ آيَاتُ اللهِ) الإشارة إلى ما تقدمَ من الآيات الواردة في أهل الكتاب، التي بينت كفرهم، وردت على قولهم بأنهم على ملةِ إبراهيم، وألزمتهم أن الدينَ عند الله هو الإسلام، وأنّ من يبتغ غيره فلن يقبل منه، فالمشار إليه هو تلك الآيات التي (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) التلاوة كالقراءة، إلّا أن القراءةَ تكون مِن مكتوب، والتلاوة تكونُ من المكتوب ومِن الصدور، وهي مِن التّلْو والاتباع؛ لأن القارئ يتلو بعضُ كلامِه بعضًا، وخصها العرفُ الشرعيُّ بقراءة القرآن، فلا يقال: فلان يتلو الحديث، أو لشيء من النثر أو الشعر، والباءُ في (بِالْحَقِّ) للملابسة، أي نتلوها عليك متلبسة ومصحوبة بالحق، لا يفارقها (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ) تنوع الجزاء إلى ما تقدم؛ رحمة للمؤمنين وعذاب للكافرين، وهذا هو العدل؛ لأنه جزاء كلّ فريق بما يستحق، فما الله يريد ظلمًا لأحدٍ (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ)([4])، وقوله (ظُلْمًا) نكرة في سياق النفي، تدل على تأكيد نفي إرادةِ جنسِ الظلم عن الله سبحانه، وتقدم الكلام على (العالمين) في الفاتحة.
(وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) الظلم يلتجئ إليه الضعيفُ والمحتاجُ، والله تبارك وتعالى ليستْ له حاجةٌ لأحد، له ما في السموات وما في الأرض، وهو الغني الحميدُ (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ومن تمام غناه وملكه والافتقار إليه، أنّ مرجعَ كلِّ أحدٍ ومصيرهُ يتقررُ عندَه.
[1]) طه: 102.
[2]) أما: أداة شرط وتفصيل، جوابها لا يأتي بغير الفاء، إلا في ضرورة الشعر، فقوله (أَكَفَرْتُمْ) ليس جوابًا، بل الجواب محذوف، تقديره: فيقال لهم: أكفرتم؟
[3]) الأعراف:172.
[4]) النساء:147.