بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (172).
(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:78-80].
هذا فريقٌ آخر من اليهود، منهم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحُيي بن أخطب (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ) يلوُون مِن اللَّيّ: وهو إدارة الشيء وتحويله عن وضعه الصحيح إلى وضعٍ معوَجّ، ومنه لَيُّ العنق، وليُّ الرأس، قال تعالى عن المنافقين: (لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ)( )، وليُّ ألسنتهم بالكتاب على وجهين: أحدهما قراءتهم شيئًا آخر غير التوراة، ليس منها أصلًا، يوهِمون أنه من التوراة، كقولهم: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)، يوهمون أنه قول التوراة، وقول ابن صوريا في حكم الزاني المحصن، وقد أخفى حكم الرجم من التوراة: (نُحَمِّمُهُمَا وَنَضْرِبُهُمَا)( ) أي نطمس حكمَ الزاني والزانية من التوراة، والوجه الآخر في ليِّ ألسنتهم بالكتابِ؛ تغيير بعض الكلمات أو الحروفِ ليشوِّهوا معانيها، ويصلُوا منه إلى أغراضهم الخبيثة، كقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (رَاعِنًا)( )، يعنُون: اسمعْ لا سمعتَ، أي الدعاء عليه بذلك في لغتهم، أو وصفه بالرعونة، وقولهم: (السَّامُ عَلَيْكُمْ)( ) أي: الموتُ لكم، و(السِّلام عليكم) بكسر السين، أي: الضربُ بالعصي عليكم، فالتحريف الأول تركٌ لنصّ ما نزل إليهم من التوراة، وقراءة غيره، الذي بدّلوه، والتحريف الثاني تشويهٌ وتصحيفٌ لمعنى النصِّ بما يوهم خلاف المراد منه (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) ليحسبَ المسلمون حين سماعهم لقولهم - راعنًا مثلًا - أنه الذي أرادهُ القرآن؛ ليلبسوا عليهم دينهم، وليلقوا في قلوبهم الشُّبه، التي تتعارض مع ما علموهُ مِن الكتابِ، فقوله: (وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) تأكيد لما فُهم مما قبله من اللّيِّ والتحريف، وذكر الاسم الظاهر (الْكِتَابِ) وتكريره، وتكرير لفظ الجلالة (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) دون استعمال الضمير في هذه الآية، للتفخيم بتكرير الأسماء الجلية، لما تحدثه من الهيبة والرهبة في القلوب ( )؛ ليتم فضح تلبيسهم على أكملِ وجهٍ، وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى: (وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)( ) في البقرة، واستعمل الفعل المضارع في الجمل كلها – (يلوون) و(تحسبوه) و(يقولون) - ليدل على أنهم مداومون على هذا الغشِّ والخداعِ، لا ينفكُّون عنه (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يكذبون ويعلمون أنهم يكذبون، فالحجة عليهم قائمة.
(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ) (عِبَادًا) جمع عبد، والفرق بين عباد وعبيد أنّ العبيد يقتضي الذلة، بخلاف العباد، ولذا كانت نداءات القرآن يا عبادي، لا يا عبيدي، وأما قوله: (وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) فهو لتصوير إظهار ضعفهم وانكسارهم، ومع ذلك - حتى وهم في هذا الحال من الضعفِ - لا يظلمون.
والآية ردٌّ على مقالة النصارى، الذين يؤلهون عيسى عليه السلام ويعبدونه، قيل إن بعض اليهود وبعض الوافدين على النبي صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران قالوا: يا محمد؛ ألا نعبدك ونتخذك إلاهًا، فقال لهم: (معاذ الله أن نعبد غير الله، وأن نأمر بعبادة غير الله، فما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني)( ) فنزلت الآية.
(مَا كَانَ لِبَشَرٍ) اللام في لبشر للاستحقَاق، أي: ما كان لبشر وهو عيسى، الذي آتاه الله الإنجيل وآتاه الحكمة، يستحق أن يقول للناس: كونوا عبادًا لي من دون الله، وكل من أوتي النبوة والكتاب من الأنبياء، حكمه حكم عيسى في هذا الشأن، فما يحق له ذلك، والحكمة: وضع الشيء موضعه على الصواب والسداد، وتأتي الحكمة بمعنى السنّة (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) الربّاني: نسبة إلى الرب، وتزاد الألف والنون في النسبة للمبالغة، كما قالوا: لِـحْياتي لعظيم اللحية، ورقباني لغليظ الرقبة، وشعراني لكثير الشعر، والرباني: هو الكامل في العلم والعمل، أي: كونوا كاملين في العلم والعمل (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) الباء للسببية، أي: كونوا ربانيين بسبب ما أوتيتم من العلم، وكنتم علماء تعلمون الكتاب (وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) وبما تتعلمون وتتدارسون العلم بينكم، ومادة درس تدل على التكرار، ومنه: ثوب دارس، إذا أنهك وخَلَق من كثرة ما لبس، ودراسة العلم أو الكتاب: قراءته قراءة متأنية متكررة؛ ليحفظ ويفهم، وفي الحديث: (...وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ...)( )، ومنه المدراس لبيت قراءة اليهود، والمعنى: لا تكونوا قائلين: كونوا عبادًا لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين، منسوبين إلى الرب بالطاعة والعبادة، بسبب علمكم أو تعليمكم ودراستكم؛ لئلا تدخلوا تحت قوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ)( )، والآية مدح للفريقين: العلماء والمتعلمين، وتنبيه إلى أن العلم لا ينفك عن العمل؛ إذ لا يعتدّ بأحدهما بدون الآخر، وأن الغاية من العلم والتعلم هي التزام الحق، والعمل به، وأن يكون أهله ربانيين لا ملبِّسين، ولا مدلِّسين، ولا مخذِّلين عن الحق، ولا مغيبين عنه، والنفي في قوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ) النفي في الآية مسلطٌ على قوله: (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ) لا على إيتاء الكتاب والحكم، أي: ما كان لبشر - أيّ بشر كان - أن يأمر بعبادة نفسه، وأن يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دونِ الله، فما بالكَ بمَن آتاه الله النبوة، وآتاهُ الكتابَ والحكمة.
(وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا) من تحريف النصارى لدينهم زعمهم أن المسيح أمرهم بعبادته، وأمرهم أن يقولوا عنه إنه ابنُ الله، فنفى القرآن تحريفَهم وضلالاتهم، ونفى كذلك ما كان من جنسه مِن الغلو في الملائكة والأنبياء، فقد كان هناك من يعبدُ الملائكة والأنبياء بعد أن صوَّروا لهم تماثيلهم، وغلوا في تعظيمهم، فنهاهُم الله عن ذلك.
(أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) الخطاب يمكن أن يكونَ للنصارى، على معنى أن يحملَ الإسلام على الإيمان، وأنّ الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، ويمكن أن يكون الخطاب للمسلمين؛ لأنه لم يعهد أن يخاطب النصارى بالمسلمين، والاستفهام في (أَيَأْمُرُكُمْ) إنكاري، أي: فلا يأمركم مَن أوتي النبوة بالكفر بعد إذ نجّاكم الله منه، وجعلكم مسلمِين.