المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 170- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (170).

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[آل عمران: 68-73].
(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ) أَوْلَى من الولْي: وهو القرب، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)( )، أي: ما بقي من الفريضة في الميراث يعطى لأقرب العصبة، فأولى الناس بإبراهيم أخصّهم به، وأشدهم قربًا منه، وهم قومه الذين اتبعوه وآمنوا به، من ذريته من الأنبياء: إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ولوط، وغيرهم من الرسل (وَهَٰذَا النَّبِيُّ) محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من أمته، هم أيضًا أولى بإبراهيم؛ لأنّهم على أصل ملةِ إبراهيم ملةِ التوحيد، وقوله: (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) تكذيبٌ آخر لدعوَى اليهودِ والنصارى بأن إبراهيم على  دينهم، أي: فما دام أن هذه هي الحقيقة، وهي أنّ اللهُ وليّ المؤمنين، فهم - أي المؤمنون - دون شكٍّ أولى الناسِ بإبراهيم، ومَن خالفهم كان أبعدَ الناس منه، ومِن دِينه، ومن كان الله وليهُ فلا يحتاجُ معه إلى غيره.
(وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) تمنَّت طائفة من أهل الكتابِ - وهم يهود المدينة؛ بنو النضير، وقريظة، وقينقاع - لو يضلونكم، و(لَو) حرفُ شرطٍ وامتناع، وفيها معنى التمنّي، امتنع هنا وقوعُ الجوابِ، وهو تحقق مراد اليهود من تشكيكِ المسلمين في دينهم، لامتناع وجودِ الإضلال وهو الشرط، والتقدير: لو استطاعوا إضلالَكم لتحققَ مرادُهم، ولكنهم لم يستطيعوا، فباؤوا بالخيبة، وقد جاء في أسبابِ النزول؛ أنّ اليهودَ دعوا حذيفةَ وعمارًا ومعاذًا إلى اليهوديةِ، فنزلت الآية (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) هم في الحقيقةِ أضلُّوا أنفسَهم؛ لأنّ مَن أضلَّ غيره فقدْ أمعنَ في إضلالِ نفسه بالأوْلى، حيثُ قفلَ على نفسِهِ بابَ التوبة، وقطعَ عنها خطَّ الرجعة، وكذلك إضلالهم وإهلاكهم لغيرهم وبَالهُ عائدٌ عليهم، يتضاعفُ معه إثمهم؛ لأنهم يحملونَ أوزارَهم كاملةً (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ)( ) وهم في ذلك كلّه مخدوعونَ، ولا يشعرونَ بسوءِ عاقبة ما يصنعونَ.
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) نداءٌ لأهلِ الكتابِ مِن اليهود والنصارى، وسؤالهم (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ) سؤال توبيخ وإنكار، لمَ تنكرونَ المعجزات الظاهرةَ، الدالةَ على صدقِ النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ ومنها البشارة به في كتبِهم، وبصفتِه واسمِه ونعتِهِ، لمَ تنكرونَ المعجزات الواضحة، وتكفرونَ بما جاء منها في شأن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأنتم متيقنونَ بها، وتعلمونَها علمًا يضاهِي علم المشاهدةِ ورأيَ العينِ (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) تكريرُ النداءِ لهم لتسجيلِ مزيدٍ من اللومِ عليهم والتقريع لهم، فلم يكتفُوا بإنكارِ المعجزاتِ وتكذيبِ الرسالة، بل زادُوا على ذلك بالتلبيسِ والتدليسِ، والتلبيسُ أصلُه سترُ الشيء وإخفاؤُهُ، فهم يلبسونَ على الناسِ الحقّ، ويسترونهُ بالتحريفِ والتبديلِ، ثم يبرزونَ المحرّفَ كأنهُ الحقّ (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ) ولا يكتفون بالتلبيسِ والتحريفِ، بل يكتمونَ ما جاءَ في كتبِهم من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكتموا ما جاء في التوراةِ مِن الأحكام، التي لا توافقُ هواهم؛ كرجمِ الزاني، قال تعالى: (تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)( )، وجملة (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حالية، فكتمانهم متعمدٌ عن علم، لا عذرَ لهم فيه.
 (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وجْه النّهار: أوله، بعدَ أن فشلتِ الطائفةُ الأولى من اليهود، الذينَ ودّوا  إضلال بعض الصحابة ليتركوا دينهم، لجأت طائفة أخرى من اليهود، ومنهم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، من يهود خبير، لجئوا هذه المرة إلى المخادعة والمكر، فقالوا لبعضهم من اليهود: آمِنوا بالقرآنِ، وصدِّقوا المؤمنين أولَ النهار، واكفروا آخر النهار؛ لتشكّكوا المسلمين في دينهم، فإنهم إذا رأوكم تفعلونَ تشكَّكوا، وقالوا عنا: اليهود هؤلاء أهل كتابٍ، ولديهم اطلاعٌ وعلمٌ، وما فعلوا ذلك إلّا لأنهم تبيَّنَ لهم عدمُ صدقِ ما عليه المسلمون، فهذا في زعمِهم يجعل المسلمين يرجعونَ عن دينهم.
وقالت هذه الطائفة من اليهودِ لقومهم: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) حتى هذا الإيمان الكاذب لبعض الوقت الذي أوصوا خافوا منه، فقالوا لقومهم: لا تغتروا بقولنا السابقِ: آمنُوا بعضَ الوقت، وتصدقُوا بدين محمدٍ صلى الله عليه وسلم حقيقة، فالذي طلبناه منكمْ هو أن تؤمنُوا وجهَ النهارِ إيمانَ نفاقٍ ظاهرًا، لا أنْ تؤمنُوا حقًّا، فالإيمانُ الحقّ لا يكونُ إلا لمن تبعَ دينكم اليهودية (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللِه) ردَّ الله تعالى عليهم بقوله لنبيّهِ: قل لهم يا محمد: لا يجدي مكرُكُم في قولكم لبعضكم آمنوا وجهَ النهار واكفروا آخره شيئًا؛ فإن الهدى ليسَ ما أنتم عليه مِن اليهودية المحرفة، ولا ما دعوتُم إليه من إيمانِ النفاقِ وجهَ النهار، بلِ الهدى النافع صاحبَه هدَى الله، وهو دينُ الحق، الذي أرسلَ اللهُ به محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجعله ناسخًا لما قبله؛ قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)( ).
(أَنْ يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) بعدَ أن ردّ الله تعالى على اليهود؛ أنّ ما دبّروه من الكيدِ للتشكيكِ في دينِ المسلمين، لن يضيرَ المسلمين شيئًا، وأنّ الهدى هدَى الله، لا ما زعموه مِن الإيمانِ الباطل، ذكّرهم بحقيقة أمرهم، فقال لهم: ما حملكم على ما قلتم ودفعكُم إليه إلّا الحسدُ في قلوبِكم، أنْ يؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم مِن الوحي، أو يكونَ ما أوتيه غيركم مهيمنًا وناسخًا لوحيِكم، هذا هو السبب لقولكم: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، وقوله تعالى: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي: وزادكم غيظًا وحسدًا أنّ الحجةَ واقعةٌ عليكم، ولازمةٌ لكم، باتباع هذا الدِّين، وذلك للأدلةِ والبراهين التي تعلمُونها من كتابكم وتكتمونها؛ تلبيسًا وعنادًا، وهناك وجوهٌ أخرى في تفسير هذه الآية، وهذا الوجهُ أقربُها؛ لانسجامِه مع خاتمتها، وهو (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) فليسَ لأحدٍ أن يقسمَ رحمةَ الله، ولا أن يتحكمَ في إنزالِ رسالاتِهِ (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)( )، ولا في تفضيلِ بعضِها على بعضٍ، كما قال: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ)( ).

التبويبات الأساسية