بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (116).
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:220].
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) كانوا في الجاهلية يظلمون اليتامى، ويتساهلون في إتلاف أموالهم، حتى إن الرجل كان يتزوج اليتيمة فيأخذها، ويأخذ مالها فيأكله، فنهاهم الله تعالى عن ذلك في قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)( )، فخاف الناس، واجتنبوا مخالطة اليتيم؛ إمّا بترك رعايته بالكلية، أو برعايته ولكن بمشقةٍ وتكلفٍ، أدى إلى عزل ماله عن مال اليتيم من كل وجه، حتى كان يعزل طعامه عن طعامه، وصارَ اليتيمُ يأكل وحده، ولو فضل له من طعامِه شيءٌ تُرك له، إلى أن يأكلَه أو يفسدَ، فأضرَّ هذا باليتامى، لفقد من يقوم بهم من قراباتهم، وخافوا من ذلك مع شفقتهم عليهم، فسَألوا: ماذا يفعلون؟ إن تركوهم ضاعوا، وإن عاملوهم وقعوا في الحرج، فقيل لهم: (قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) الإصلاح ضدّ الفساد، وهو في كل شيء بحسبه، بحيث يتعامل مع ما يراد إصلاحه في كل شيءٍ على الوجه الأمثل، بالصورة المطلوبة منه، واللام في (إِصْلَاحٌ لَهُمْ) للاختصاص، فهو إصلاح لأجلهم، خاص بهم، أي هو خير تقدمونه لهم، تؤجرون عليه؛ لأن الابتعاد عنهم يوقع في إثم تضييعهم، وجعل الإصلاح (لَهُمْ) بلام الاختصاص دون الإضافة بأن يقال: "إصلاحهم"؛ لأن الإضافة يتبادر منها إصلاح ذواتهم خاصةً، والمراد ما هو أعمّ، ليشمل مع إصلاح ذواتهم برعايتهم إصلاحَ أموالهم، بتنميتها وحفظها، وإصلاح ما يتعلق بدينهم وأخلاقهم، بالتأديب والتعليم، والحفاظ على الصلاة، وغير ذلك من كلّ وجوه العناية والرعاية. (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ) المخالطة الممازجة والتداخل، بحيث يتعذر الفصل والتمايز، أو يصعب، كاختلاط الماء بالماء، والحَب بالحَبّ، واختلاط الناس في الزحام، والتعبير بالمخالطة يشعر بأنه لا يُكتفَى في رعايتهم بمراقبتهم، والحفاظ على أموالهم عن بُعد، بل تنبغي مداخلتهم، وعدم الترفع عنهم، بمؤاكلتهم ومصاهرتهم ومشاركتهم، فقد أخبر الله تعالى في آية النساء عن نكاح يتامى النساء بقوله: (وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ)( )، أي: عن أن تنكحوهن ترفعًا عنهم ونفرةً، إذا كانوا فقراء، وقوله: (فَإِخْوَانُكُمْ) خبر لمبتدأ محذوف، أي: فهم إخوانكم، اقترن بالفاء لكونه جوابَ الشرط، ذكّرهم بأُخوتِهم حتى لا يتهاونوا بأخوة الإسلام، التي تقتضي المحبة والنصح والعطف والحرص، فالأخ لا يضيع أخاه. (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) تجنُّب القيام بهم ورعايتهم خوفًا من الوقوع في الإثم عند مخالطتهم، والتذرع بذلك، ورعٌ متكلّفٌ في غير محله، لا طائل منه، وتنزُّهٌ لا فائدة فيه؛ لأنه يعرضُهم للضياع، هناك خيار آخر هو أجدَى وأنفع لكم ولهم، أن تخالطوهم، وتصلحوا في معاملتهم، وما تخافون منه على أنفسكم لا تقلقوا منه، الله مطلع عليه، ولا يخفى عليه حالُ مَن خالطهم إشفاقًا عليهم، ليحفظَ مالهم، وحال مَن خالطهم ليستغلَّ ضعفهم، ويضيع مالهم، وسيجازي كلا بما يستحق، فلا تحرموا أنفسكم الأجر، ولا تحرموهم الرعاية، وهذه الآية تضع قاعدةً لكل من يؤهله الله عزّ وجلّ لحمل رسالةٍ، أو إسهامٍ في عمل نافع للناس، فقد يتسلط عليه السفهاء، ويتهمونه بالأغراضِ ونفع نفسه - كما يتهمون من يتولى يتيما إذا خالطه بأكل ماله، أو ضيّق عليه لتأديبه وتربيته بالانتقام منه - على مَن تعرضوا لذلك ألَّا يثنيهم كلام الناس ويصدهم عن عمل نافع، فيه خير للناس، فلا يلتفتون إلا لإصلاح ما يعلمه الله منهم، لا ما يقوله الناس عنهم، فدأب الناصحين والمصلحين لا شيء عندهم مقدم على مرضاة ربهم، ولا يخشون على أنفسهم إلا مما لا يخفى عن علم الله منهم، لا مما يقوله الناس عنهم، والله يعلم المفسد من المصلح (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) لو حرف امتناع لامتناع، ومفعول المشيئة محذوف، أي: لو شاء الله إعناتكم لأعنتكم، لكنه لم يشأْ، فلم يعنتْكم، فما جعل عليكم في الدين من حرج، والعَنَتُ: المشقة الشديدة، التي يصعبُ تحملها، والله قادر على أن يدخلكم فيها، فتعجزوا، وإذا عجزتم تعاقَبون، وذلك مثلا - فيما يتعلق باليتامى - بأن يمنعكم من مخالطتهم، فإن خالطتموهم عوقبتم لعصيان الأمر، وإن تركتموهم عوقبتم لتضييعكم لهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب يفعل ما يريد، لو شاء لأعنتكم (حَكِيمٌ) أفعاله لحكمة، ومن حكمته وضع كل شيءٍ في تشريعه وأحكامه موضعه الذي يصلح له.