بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (106).
(فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [البقرة:200-203].
(فَإِذَا قَضَيْتُمْ) فرغتم وأنهيتم (مَنَاسِكَكُمْ) جمع منسك مصدر ميمي، أو اسم مكان من نسك كنصر، إذا تعبد، والنسك العبادة، فقضاء المناسك الانتهاء والفراغ من أعمال الحج (كَذِكْرِكُمْ) جار ومجرور نعت لمصدر محذوف، أي: ذكرا كذكركم آباءكم (أَوْ أَشَدَّ) أو عاطفة للإضراب الإبطالي، بمعنى بل (أَشَدَّ) معطوفة على المصدر المحذوف ذكرًا، و(ذِكْرًا) المذكور منصوب على التمييز، كانوا في الجاهلية عقبَ الانتهاء مِن أعمالِ الحجّ يقفون بمِنى، بينَ موضعِ مسجدِ الخيف والجبل موضع الجمرة، يذكرونَ مآثرهم، ويتفاخرونَ بآبائِهم وأيامِهم وأنسابِهم، فأمرَهم اللهُ تعالى أنْ يتخلّوا عن ذلك، مما لا طائلَ تحته، سِوى إثارةِ البغضاءِ وعصبياتِ الجاهليةِ، ويجعلوا ذلك الوقتَ الذي يُهدرُ عند انقضاءِ المناسكِ أو أكثرَ منه لذكرِ الله سبحانه وتعالى، وتكبيره وتعظيمه، لشكرِه على ما وَفّقَ وهَدَى.
(فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) (مِن) بيانيةٌ، والخَلاق الحظُّ والنصيبُ، أي: ليس له نصيبٌ مِن الخيرِ يُعطاهُ في الآخرة. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) حسنة الدنيا خيراتُها ولذائذُها، وعلى رأسِها العافيةُ، والعيش الهنيءُ، والزوجةُ الصالحةُ، وحسنةُ الآخرة الجنةُ ونعيمُها (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) اجعلْ بيننَا وبينَ النار وقايةً، تمنعُ عنَّا حرّها وعذابَها. بعد أن أمر الله تعالى بالإكثار مِن الذكرِ عند قضاء المناسكِ، الذي مِن أعظمِه التعرضُ لله بالمسألةِ والدعاء، بيّن أنّ الناسَ في مسألتِهم فريقانِ؛ فريقٌ همّه الدنيا، فقصَرَ طلبَه على متاعها، وحرَمَ نفسَه الآخرةَ، فلم يسأل في دعائهِ منها شيئًا، وهم المشركونَ، فقد كانوا يحجونَ قبل أنْ يُمنعُوا في السنةِ التاسعةِ، حينَ حج أبوبكر رضي الله عنه بالناسِ، وذلك في الإعلانِ الذِي بلَّغَه علي رضي الله عنه الناسَ يوم الحجِّ، بأمرِ النبي صلى الله عليه وسلم، والفريقُ الآخر المؤمنون، يسألونَ الله خير الدنيا والآخرة، ويقولون ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذابَ النار . (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) الإشارة أولئك ترجع إلى الفريق الثاني، مَن سأل حسنات الدنيا وحسناتِ الآخرة؛ لأن الفريقَ الأول أخبر القرآنُ عن حالهم بقوله: (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) ويمكن رجوع اسم الإشارةِ إلى الفريقين، على معنى أن كلَّ فريق له نصيبٌ مِن دعائه وطلبِه، فمَن سعَى إلى الدنيا وطلبَها ييسّر إليه منْها، ومَن سعى إلى الآخرةِ وطلبَها يُيسرُ إليه منها. كما قال تعالى: (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ)( ) وقال أيضًا: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ)( )، والنصيبُ: الحظّ (مِمَّا كَسَبُوا) مِن أعمالهِم ومنها الدعاء (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) الحسابُ أصلُهُ العدُّ، والمرادُ لازمه وهو الثوابُ والجزاء، ومِن الجزاءِ إجابةُ الدعاءِ، وهو تذييلٌ بما يتضمنُ بشارةً للمؤمنين، ووعيدًا للعصاةِ والظالمين، فالله تبارك وتعالى يحاسبُ الخلائقَ على أعمالهم في لمح البصر، ليخلُص المؤمنون إلى الجنةِ، والظالمونَ إلى جهنمَ (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) تنبيه آخر بالوعيد بالعقاب للمذنبين، ومن لم يلتزم بأحكام اللهِ في أمرهِ ونهيهِ. (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) مَعْدُودَاتٍ صفة لأيام، جمع معدود، جُمع جمْع سلامة للمؤنث لأنه غير عاقلٍ؛ كسجلٍّ وسجلات، والأيامُ المعدوداتُ هي أيام التشريقِ الثلاثةُ، سميت كذلكَ لأنّها تُشرّق وتشرَّحُ فيها لحومُ الضحايا، أي تُقدَّدُ، وأوّلُها ثاني أيامِ النحرِ، ويسمَّى يومَ القَرّ؛ لاستقرارِ الحجاجِ فيهِ بمِنًى، وثانيها ثالثُ أيامِ النحر، وثاني أيامِ الرميِ، يوم النفر الأولِ مِن مِنًى إلى مكةَ لمنْ تعجّلَ، وثالثُها ثالثُ أيامِ الرميِ، يوم النفرِ الثانِي لمنْ تأخرَ، والأيامُ المعلومات الواردةُ في قوله تعالَى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)( ) هي يومُ النحرِ ويومانِ بعدَه، وليس منها اليومُ الرابعُ؛ لأنه ليس مِن أيامِ ذبحِ النُّسكِ، والذكرُ المأمورُ به هو التكبيرُ عند الرميِ والذبحِ، وعقبَ الصلواتِ (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) مَن نفرَ مِن مِنى بعد رمي الجمار، في ثاني أيامِ الرمي قبل المغربِ، فلا إثمَ عليه (وَمَن تَأَخَّرَ) وبقي حتى رمَى اليوم الثالث من أيام التشريقِ (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) فالأمر بالبقاء وعدمِه على التخييرِ، وفيه سعة (لِمَنِ اتَّقَىٰ) خبرٌ لمبتدءٍ محذوفٍ، واللام بيانيةٌ، أي: هذَا التعجلُ أو التأخرُ لا إثمَ فيه لِمنِ اتقَى اللهَ في هذهِ الأيامِ، وعَمرَها بالذكرِ، لا بالفُسوقِ والجِدالِ والرّفثِ، والتخييرُ لا يُنافِي أنّ التأخيرَ أفضلُ، كما كانَ الصومُ في السفرِ أفضلَ مِن الفطرِ، ولأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اختارَه، ولا يختارُ لنفسِهِ صلى الله عليه وسلم إلا الأفضلَ، وقولُه: (فَمَن تَعَجّلَ) (وَمَن تَأَخّرَ) يدلُّ على أنّ المبيتَ بمِنًى واجبٌ، ورخّصَ النبي صلى الله عليه وسلم بتركِه لذوِي الحاجاتِ؛ رخّصَ للرِّعاء، الذينَ كانوا يرعونَ الإبلَ في أماكنَ بعيدةٍ عنْ مِنى، ورخّص لعمِّه العباس المبيتَ بمكةَ؛ لأنّه كان يقومُ على سقايةِ الحُجاجِ مِن زمزمَ، رخّصَ لهم بعدَ أن رموا جمرةَ العقبةِ، فرمَى الرِّعاءُ بالليلِ، مِن ليلة الرميِ الثانيةِ، لأول أيامِ الرميِ وثانيهِ، كما جاءَ في الموطأ (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تحشرونَ مِن الحشرِ، وهو الجمعُ بعدَ التفرقِ، ويومُ الحشرِ اليومُ الذي يجمعُ الله فيه الأولينَ والآخرينَ في القيامةِ للحسابِ. وبعدَ أن أمرَ اللهُ تعالى الحُجاجَ في منًى بالتقوى أمرًا خاصًّا، أمرَ الناسَ جميعًا بها أمرًا عامًّا، وفي جميعِ الأحوالِ، وذكَّرهم بأنّهم إليهِ يحشرونَ للحسابِ؛ لينظُرَ المَرأُ ما قدّمتْ يداهُ، حتّى لا يُفرّطُوا.