بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (75).
(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) [البقرة:137 – 139]
(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ) فإن آمن أهل الكتاب إيمانا مماثلا لإيمانكم، قائمًا على توحيد الله، والإيمانِ بجميع كتبه وأنبيائه، فقد اهتدوا[1].
ومجيءُ (إنْ) في قوله: (فإن آمنوا) الدّالة على الشكّ - بدل إِذا الدالة على الرجحان - يشعر باستبعاد إيمانهم، وأنّه غير مرجو (فَقَدِ اهْتَدَوْا) باتّباعهم الذي آمنتُم به (وَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عن الإيمان بالذي آمنتم به (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) فقد تبين لكم حصرًا وقصرًا - بعد ما أبديتموه لهم من الإنصاف - أنهم لا يريدون الحق، وإنما يريدونَ الخلافَ ويبغونه، والشقاقُ شدة العداوة، واشتقاقه إمّا من الشَّق بمعنى التمزيق والصدع، أو من الشِّق بمعنى الجانب؛ لأنّ المخالفَ يكون في شقٍّ غير الشقّ الذي فيه مخالفُه، أو مِن المشقة والشدة، أو مِن قولهم: شقَّ العصا، إذا أظهر العداوةَ، والكلّ مناسب لمعنى العداوة (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) السين مثل سوف، تختصّ كلٌّ منهما بالمضارع، وتحوّله للاستقبال، وتفيدُ تحقق الوعد الواقع بعدهَا، والضميران الكاف والهاء مفعولانِ للفعل يكفي، والخطاب وإن كان للنبي r، فالمراد هو وأمتُه؛ لأنه r لا يطلبُ شيئا لنفسِهِ، والآية وقعتْ موقعَها في تثبيت النبي r والمؤمنين وتسليتهم، بعد ما علموا ما يريدُه بهم أعداؤهم من الشّقاق، والمعنى: أنتم في منعة مِن الله وفي كفالتهِ، فهو الذي يتولى كفايتكم وحفظكم مِن كيدهم ومكرهم، وفي ذلك بشارة للمؤمنين، ووعدٌ من الله تعالى بعنايته التامة بهم، ووعيدٌ لأعدائهم بقهرهم، وردّ السوءِ والبغي الذي يبيتونه عليهم (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وعد للمؤمنين بأنه سميع لأقوالهم، عليم بإخلاصهم، فيوفيهم أجورهم، وما وعدهم به من النصرة والتأييد، ووعيد لأعدائهم، يسمع ما يبدونه من الكفر، ويعلم ما يخفون من العداوة والبغض، فيُنزل بهم ما يستحقون.
(صِبْغَةَ اللهِ)[2] هداية الله تعالى وإرشاده، وفطرتُه التي فطر الناس عليها، فهداية الإسلام حلية يتحلى بها المسلم، تتخلله ويتشربها، كتشرب الصبغة للمصبوغ، فتتمكن وتصيب كل شيء منه، وبها يكتمل بَهاؤه، وعقله وخلقه وكل شيءٍ منه (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) استفهام إنكاري في معنى النفي، فلا صبغة أحسن من صبغة الله (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) عطف على (آمنا) والتقدير: (قولوا آمَنَّا) وقولوا (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) أو الواو للحال، والجملة حاليةٌ من فاعل آمنا، مؤكدة لمدح صبغة الله، تعريضًا بأهل الكتاب، أي: ولا نشرك كشرككم.
(أَتُحَاجُّونَنَا) استفهام توبيخيّ لأهل الكتاب، والمحاجة في الله المجادلة في شأنه وحكمه، واختياره لأنبيائه، وقد ألزمهم القرآن الحجة بالتنزل معهم على كل مذهب يرضونه في الجدال، حتى تسقطَ كل الشبه التي يزعمونها في اختصاصهم بالنبوة، فقيل لهم: كيف تجادلوننا في شأن ربنا، وتقولون إن نبوته خاصة بكم، فإن كانت النبوة اصطفاء من الله - كما هو المذهب الحق - فلا يتم لكم ما زعمتم؛ لأن الله كما هو ربنا هو ربكم، لا فرق بيننا وبينكم، فما الذي يجعلكم تختصون منه بشيء دوننا؟! وإن كانت النبوة إفاضة، تُستحق بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالفضائل، فلا يتم لكم ما تزعمونه أيضًا؛ لأنه كما أن لكم أعمالًا توصِلكم إليها، فلنا أعمال مثلها توصِلنا، فبطلت كل دعوى للاختصاص.
وأسلوب التنزل في المحاجة مِن أقوى الطرق في إقامةِ الحجة على الخصم، ومنه قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)([3])، وقوله I: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) ([4]).
[1] يمكن إجراء فعل آمنوا مجرى اللازم، والباء تكون للملابسة لا للتعدية، أي: فإن أوجدُوا إيمانا مماثلا ومساويًا لإيمانكم، أو للاستعانة والآلة، أي: آمنوا إيمانًا بواسطةِ طريقٍ صحيح؛ كالطريق الذي آمنتم به فقدِ اهتدوا، ويمكن إجراء الفعل مجرى المتعدي، فتكون الباء للتعدية، على معنى: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، وتكون (مثل) مقحمةٌ للتأكيد، كما في قوله: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) أي: عليه.
[2] صبغة الله بدلٌ من (ملة إبراهيم) ويجوز نصبه على الإغراء، أي: الزموا صبغة الله، أو على المصدر المؤكد لفعلٍ محذوف.
[3]) الزخرف: 81.
[4]) سبأ: 46.