بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (74).
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:134-136].
(تِلْكَ) الإشارة إلى إبراهيم ومَن ذُكر معه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وجميعُهم أمة واحدة، يجمعُهم التوحيد والإسلام (قَدْ خَلَتْ) الخلاءُ أصله الفراغُ، ومعناه فراغُ الزمان منها بالذهابِ والانقضاء، وذهابها وانقضاؤها معلوم، ولكن ذُكر ليرتّب عليه قوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ؛ ليقطعهم عما تعودوهُ من التسنّدِ على الآباءِ والأحسابِ، وقوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فيه تقديم المسند في الموضعين (لَهَا) (وَلَكُمْ)، على المسند إليه المبتدأ (مَا كَسَبَتْ) (مَا كَسَبْتُمْ)؛ ليفيدَ القصرَ، وهو من قصر المسند إليهِ على المسند، ومِن قصرِ الصفة وهي (الكسب) على الموصوف صاحبه، كما في قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)([1])، والمعنى: كلّ أحد مرهون بعمله، مقصور عليه، لا يتعداه إلى غيره، وإن كان ابنه أو أباه، لا يغني والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئًا، فلا تُثابون بحسنات مَن مضى، ولا تؤاخَذونَ بسيئاتِهم.
(وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا) القائل هم أهل الكتاب، مِن اليهود والنصارى، و(أو) للتنويع، والكلام على التوزيع، أي: كل فريق قال قولا يدعو إلى دينه، ويقللُ من دين غيره، فقالت اليهود كونوا هودًا، وقالت النصارى كونوا نصارى (تَهْتَدُوا) جوابُ الشرط، ومفهوم الشرطِ على زعمهم: لا تحصلُ لكم الهدايةُ إلا أنْ تكونوا هودًا أو نصارَى (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) قل لهم الحقيقة، التي لا يريدون سماعها؛ أنه لا يهودية ولا نصرانية، بل ملة إبراهيم، وتقدم آنفًا الكلام على الملة، و(حَنِيفًا) على وزنِ فعيل بمعنى فاعل، من الحنف وهوَ الميلُ في الرِّجل، وهي هنا الميل عنِ الدين الباطل، فقد كان الناس في جاهليةٍ عمياء، فجاء دين إبراهيم عليه السلام مائلًا عنهم، تاركًا لهم، فلُقب بالحنيفِ، ثم صارت الحنيفية عَلَما بالغلبةِ على دين الإسلامِ[2].
(وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ما كان إبراهيم مشركا، والجملة حال ثانية من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيها تعريض بهم، واحتراس؛ حتى لا يتوهم المشركون بعد نفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم عليه السلام أنّه على دينِهم، حيث كانوا يدّعونَ أن أتباعَه قد وضعوا له صورةً في الكعبةِ، يستقسمونَ بالأزلامِ، فكذبَهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأَ الآيةَ يوم فتحِ مكةَ، وقال: (وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ)([3]).
(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا) (قُولُوا) خطاب لهذه الأمة، بدليل قوله: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) من القرآن، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط عليهم السلام، والمنزل عليهم هي الصحفُ المنزلةُ على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لكن لمّا كان مَن ذكر من الأنبياء متعبّدين بها، كانت في حكم المنزَّلةِ عليهم جميعًا، (وَالْأَسْبَاطِ) جمع سِبْط، كحِمْل وأَحمال: أولادُ الأولادِ الأحفاد، والواحد حافدٌ وحفيدٌ، هم أحفادُ إبراهيم وأبناءُ يعقوب عليهما السلام، كانوا اثني عشر ابنًا، يوسف وإخوته، كما أخبر القرآنُ عنهم في رؤيا يوسف عليه السلام: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)([4])، كلّهم كانوا أنبياء، ويوسفُ كان رسولا، ومِن الأسباطِ تشعبتْ قبائلُ بني إسرائيل (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) عطف على الإيمان بالله، والإيمانُ أيضًا واجبٌ بما أوتي موسى عليه الصلاة والسلام وهو التوراة، وعيسى عليه الصلاة والسلام وهو الإنجيل، فالمسلمون يؤمنون بجميعِ الأنبياء، مَن ذُكر ومَن لم يُذكر، ويؤمنونَ بجميع الكتب التي أنزلها الله تعالى عليهم، وأفردَ ما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام بالذكر، مع دخولِهما في عموم ما أنزل على النبيئين؛ لِمَا اشتملا عليه مِن الأحكام الكثيرة، ولوقوعِ التبشير في التوراة والإنجيل بنبينا صلى الله عليه وسلم، ولِذا أعيدَ العامل معهما بلفظِ الإيتاءِ، وهو أبلغ من الإنزال؛ لما في الإيتاء من معنى الإعطاء، الذي هو أشبه بالتمليك والتفويض.
(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) (بينَ) ظرف تقتضِي شيئينِ فأكثرَ، فالتقديرُ لا نفرقُ بين أحدٍ وبين آخر مِن رسله[5]، فالمسلمون لا يفرقون بين أحدٍ مِن رسلِ الله، ولا يقولون كما قالت اليهود: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ)([6]) (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) جملةٌ حالية، في معنى التأكيد لما قبلها.
[1]) الكافرون: 6.
[2]) حَنِيفًا يصح أن يكون حالًا من المضاف (مِلَّةَ)، على تأويله بالدينِ؛ ليحصلَ التطابق بين الحالِ وصاحبها في التذكيرِ، كما أُوّلت الرحمة بالإحسان في قوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)، ليحصل التطابق بين المبتدأ والخبر، ويصحُّ أن تكون حالٌا من المضاف إليه: إِبْرَاهِيمَ، وهو سائغ، إذا كان المضاف إليه جزءًا من المضاف؛ كما في قوله عزّ وجلّ: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إخوانا)، أو شبه جزء كما هنا في (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا).
[3]) المائدة: 3.
[4]) يوسف: 4.
[5] أَحَد همزتُه أصلية، يستعمل مع النفيِ كما هنا، وكما في قوله عزّ وجلّ: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ)، ويستعمل في الإثبات مع كلّ كثيرا، وأحيانًا بدونِها، كما في قوله سبحانه وتعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) فيفيد العموم، ويساوي في عمومه كلمة إنسان، يصلح لكل مخاطب، ويستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، فهو في معنى الجماعة، وهو غير الأحد في قوله سبحانه وتعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، همزته منقلبة عن واو، من الوحدة بمعنى الفرد الذي لا يحتمل التعدد، لمنافاته لوضعه.
[6]) النساء: 150.