بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (73).
(وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:130 – 133].
(وَمَن يَرْغَبُ) مَنْ للاستفهام الإنكاريّ، في معنى النفي، بدليل وقوعِ الاستثناء بعده، وقد يفيد مجرد استبعاد الوقوع، ويَرْغَبُ مِن الرغبةِ بمعنى المحبةِ، الأصلُ تعديه بـ(في)، وعُدّي بـ(عَن) لتضمنه معنى يبعد، والملةُ الدِّين، و(مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)[1] السفهُ الجهلُ وخفةُ العقل، بالإعراض عما فيه نفع محققٌ للنفس، والمعنى: لا يرغب ويعرض عن الحنيفية دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام دين الإسلام، إلّا جاهلٌ غبيّ، أضرّ بنفسه، وقبِلَ أن يذلّها، ويستهين بما نفعُه محقق لها.
(وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) لام الابتداء، واقعةٌ في جواب قسم محذوف (اصْطَفَيْنَاهُ) اخترناه مِن الصّفوِ، وهو خيارُ الشيء، وهذا كالدليل على سفه المعْرِض عن ملّته، فإنّ مَن كان مُخْتارًا من ربه، مشهودًا له بالخيرِية في الدنيا، وبالصلاحِ في الآخرة؛ لا يعرِضُ عن دعوته ويخالفُه إلّا مَن كان جاهلًا، مستهينًا بنفسهِ، معْرِضا عن النظر فيما ينفعُه.
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) إِذْ ظرفُ زمان لـ(اصْطَفَيْنَاهُ) أي: دليل اصطفائه عُلمَ وقتَ أنْ خاطبَه ربه بقوله: (أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ووقتَ أن أظهرَ الله تعالى ما أرادَه من صلاحِهِ في الآخرةِ.
ووقوع (قال أسلمت) جوابا لـ(أسْلم) مشعر بمبادرته للانقياد حين سماعِ الخطاب، دون ترددٍ ولا تأخير، وقال: (لرب العالمين) ولم يقل: لَكَ؛ ليبرهن على صحة الدِّين الذي انقادَ إليه، ويشعر أنهُ من عند رب العالمين، الذي يصلح أمر العالمِ كله، ويتولّى حفظه ورعايتَه وتدبيره.
(وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ) (وَصَّى) مِن الوصية، وأصلها الوصلُ، يقال: وصاهُ إذا وَصَلَه، وفَصاهُ إذا فَصلَه، ضدّ، والوصيةُ في العرف: التقدمُ إلى الغير بما فيه نفع وصلاح، مما يخافُ فواته (بِهَا) الضمير يعود على الملة، و(يَعْقُوبُ) مبتدأ خبره محذوفٌ، أي: ويعقوب وصّى بها بنيه، وأبناء إبراهيم أربعة؛ أكبرهم إسماعيل، وأمّه هاجر، وثانيهم إسحاق، وأمه سارة، ومن أبناء إسحاق يعقوب ولقبه إسرائيل، وهو جدّ بني إسرائيل، وأبناؤه اثنا عشر فرعًا، هم الأسباطُ، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب.
قال كلٌّ مِن إبراهيم ويعقوبَ لبنيه: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) اختار لكم الدين الكامل دين الإسلام، الذي هو دينُ الأنبياء جميعا، واختصكم به، فاللام في (لَكُمُ) للاختصاص (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) لا تكونوا على خلافِ تلك الحالِ، مِن دين الإسلامِ في جميعِ الأوقات، حتى تأمَنوا الموتَ عليه؛ لأنه لا أحد يعلم متى يموتُ، فالنهي في الآية معناهُ الأمرُ بالثبات على الإسلام في كلّ وقتٍ.
(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) (أَمْ كُنتُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، وأمْ منقطعة للإضراب بمعنى بل، أي: ما كنتم حاضرين يعقوب حين حضره الموت، ولا تعرفون ما وصّى به، حيث وصى بخلاف ما تدَّعُون، فلِمَ تدَّعون ما ليس لكم به علم، وما هو خلاف حاله.
ويجوز أن تكون (أَمْ) متصلة، عطفًا على مقدر، أي: أكنتم غائبين أم شهداء، ومعلوم أنكم لم تكونوا شهداء، بل كُنتُمْ غائبين، وما دمتم غائبين، فلِمَ تقولون ما ليس لكم به علم؟ والـ(شُهَدَاءَ) جمع شهيد بمعنى الشاهد.
والخطابُ إمّا ردّ على اليهود، الذين زعموا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يهوديا، ويعقوب وصّى بنيه باليهودية، فذكَّرهم القرآنُ بوصيته لبنيه بالثبات على الإسلام، وإمّا خطاب للمسلمين، يقول لهم: ما كُنتُمْ شاهدين لوصية يعقوب لبنيه، ولكن علمتم ذلك من الوحي والقرآن، تثبيتًا لهم بإظهار المعجزة بإخبار القرآن عنه (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) إِذ قال لِبنِيهِ بدلٌ مِن إِذْ حَضَرَ (مَا تَعْبُدُونَ) استفهام تقريري[2]، أي: أيَّ شيء تعبدون من بعدي؟ أراد بالسؤال أن يقررهم على التوحيد والإسلام، وأخذَ ميثاقَهم على الثباتِ عليه.
(مِنْ بَعْدِي) من ابتدائية، تفيد التأكيد، أي: ما الذي تعبدونَه بدايةً مِن أولِ وقتٍ أفارقكم فيه (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا) (إِبْرَاهِيمَ) عطف بيانٍ على (آبَائِكَ) وقال: (وَإِلَهَ آبَائِكَ) بالإضافة دونَ لفظ الجلالة الله؛ ليفيد أنهم مقتدون بأسلافِهم في عبادة الإلهِ، الذي علمُوا مِن آبائهم صفاتِه وكمالاتِه، وتكرّر لفظُ إله مرتين؛ لأنه لا يعطف في الفصيح على الضمير المجرورِ بدون إعادة الجار، و(إِلَهًا وَاحِدًا) بدل اشتمال مِن (وَإِلَهَ آبَائِكَ) فإن النكرةَ الموصوفة تبدلُ من المعرفةِ، كما في قوله تعالى: (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)([3])، أو حال من (وَإِلَهَ آبَائِكَ)؛ لما اشتملت عليه الحال من الصفة الزائدة في قوله: (وَاحِدًا)، وفائدتُه التصريح بالتوحيدِ، ودفع توهم التعدد من التكريرِ، والمعنى: نعبد إله الأنبياء آبائنا، المتفق على ألوهيته ووجُوب عبادتِه وكمالِ صفاته، وعَدَّ إسماعيل عليه السلام من آبائهِ من باب التغليب، أو لأنّ العمَّ بمنزلةِ الأب، ففي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (عمُّ الرجلِ صِنوُ أَبيهِ)([4]).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عمه العباس رضي الله عنه: (احْفَظَونِي فِي الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُ بَقِيَّةُ آبَائِي)([5])، أي: مَن بقي منهم، (وَإِسْحَاقَ) هو الابن الثاني لإبراهيم، وليس هو الذبيح، بل الذبيح إسماعيل الابنُ الأكبر، وكان إسماعيل وحيدًا لأبيه حين أُمر إبراهيمُ بذبحهِ؛ ليعظم الخطب بالابتلاءِ، وتعظم الكرامة بالامتثالِ، ومن الغريبِ أن اليهود يقولون إن الذبيح إسحاق، مع أن التوراةَ تصف الذبيحَ بأنه الولدُ الوحيد، ولم يكن إسحاق حين وُلد وحيدًا؛ لأنه أصغرُ من إسماعيل بالاتفاق (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) الجملة حاليةٌ مِن معمولِ نعبدُ، أو معطوفة على نعبدُ؛ لإفادة معنى زائدٍ عليها، فالفعلية أفادت الاستمرارَ والتجددَ للعبادة، والإسمية أفادت ثبوت الوصف بالإسلامِ ودوامَه.
[1] (مَن) بدل من ضمير فاعل يرغب، و(نفسَه) مفعول (سَفِهَ) على أنه متعدٍّ، أو نصب على التمييز المحول عن الفاعلِ، من سفِهتْ نفسُه اللازم، أو عن نائب الفاعلِ مِن سفهَت نفسُه كغبن رأيُه، ومجيء التمييز معرفة غير ممتنع، لكنه قليل.
[2] (ما) يسأل بها عن شيء مبهم لم يُعرف، فإذا ما عرف وكان عاقلا، سُئل عن تعيينه بـ(مَن) وعن وصفِه بـ(ما)، فيقال: ما زيدٌ، أكريمٌ أم بخيل؟
[3]) العلق: 15، 16.
[4]) مسلم: 983. صِنوُ مفردُ صِنوان: النخلتانِ مِن عرقٍ واحد.
[5]) المصنف في الأحاديث والآثار: 32212، وهو ضعيف.