المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 65 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (65).

 

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (أَلَمْ) همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي لمْ، وكل استفهام دخل على النفي يفيد التقرير؛ لأن حرف الاستفهام للنفي، ولم للنفي، ونفيُ النفيِ إثباتٌ، أي: لقد تقرّرَ أنّ الله تعالى له ملك السموات والأرضِ، والخطاب في (تَعلَمْ) لكلّ أحدٍ مِن أفراد الأمة، على سبيلِ البدَلِ، ويجوزُ أن يكونَ خطابًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ أمتُه؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحتاج أن يقرّرَ على أنّ الله على كلّ شيءٍ قديرٌ، وأنّ اللهَ له ملك السمواتِ والأرضِ.

(وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) الوليّ المالكُ والقائم بأمرِ غيره ورعايتهِ، والنصيرُ القادرُ على نصرته ونجاته، وجمعَ بينهما لأنّ مَن يتولَّى غيرَه قد لا يكونُ قادرًا على النصرةِ، والقادرَ على النصرةِ قد لا يكونُ متوليًا الرعايةَ الدائمةَ، فالله تعالَى وحدهُ هو المتولِّي أمرَ عبادِه على الدوامِ، والقادرُ علَى نصرتِهم ونجاتِهم مِن الشدائدِ على الدوامِ.

وقوله: (مِنْ دُونِ اللهِ) دُون بمعنى سِوَى، تفيدُ معنى الاستثناءِ لأنّها مسبوقةٌ بالنفيِ، وتدلّ مع النفيِ على قصرِ الولايةِ والنصرةِ الحقّة على الله تعالى.     

(أَمْ) حرف عطف استفهامية، تكون منقطعة - كما هنا - بمعنى لكن أو بل، وذلك عندما يستفهم بها عن جملة، ينتقل بها مِن الكلام السابقِ إلى الاستفهامِ عن أمرٍ آخر غيره، وفي الآية انتقالٌ مِن الاستفهام التقريريّ في الجملة التي قبل (أم)، وهي: (أَلَمْ تَعْلَمْ...) إلى الاستفهام الإنكاري في الجملةِ التي بعدَها: (أَمْ تُريدُونَ...)، والتقدير: قد علمتم أنّ الله على كل شيء قدير، وأنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، لكن مع علمِكُم تريدونَ أن تسألوا رسولَكم سؤالَ الجاهل، كما ارتكب قومُ موسى مِن قبل؛ في مثلِ قولهم: اجعل لنا إلاهًا كما لهم آلهة، أو مثلِ سؤالِهم عن البقرةِ ما هي؟ وما لونها؟ ونحو ذلك، فدَلَّ الاستفهامُ الإنكاريّ على التحذيرِ مِن التشبهِ بقومِ موسى في السؤال، سواء فيما يضر بالعقيدة كالأول، ومنه ما تمناه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون لهم ذات أنواط([1])، أو كان فيما لا يحتاج إليه، ممّا فيه تعمّقٌ، ويوقعُ في الحرج؛ كما في السؤال عن البقرة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾([2]).

وتكون (أَمْ) بمعنى (أو)، وتسمّى متصلةً أو معادِلة، وذلك عندما يُعطف بها لتعيينِ أحدِ أمرَينِ، أو للتسوية بين احتمالِ حصولِ كلٍّ منهما، ويكثر ذلك في عطف المفردات.

وفي قوله: (أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا) مبالغةٌ في النهي، حيث نُهوا عن إرادة السؤال، فضلًا عن السؤال نفسه، وبني الفعل (سُئل) للمجهول، ولم يُذكر السائلُ؛ للإشارة إلى أنّ من سأل ذلك يستحقُّ أن يُصانَ اللسان عنه.

 

(وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) يختار الكفرَ ويُعرضُ عن الإيمان، فالكفر في الآيةِ هو المأخوذُ، والإيمانُ هو المتروكُ، على القاعدةِ في مثلِه مِن أنّ الباءَ تدخلُ على المتروكِ، وقوله: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) فقدْ حادَ عن الطريقِ، والسواءُ الوسطُ، ومنه: ﴿إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾([3])، وسواءُ السبيلِ أعدلُهُ وأقومُهُ، والجملةُ جوابُ مَنْ الشرطية، ووقوع الجواب ماضيًا مقترنًا بقد - مع أنه مترتبٌ على فعلِ الشرطِ المضارعِ الواقعِ في المستقبل - كثيرٌ في القرآن، وإذا جاءَ كذلك فإنّه يدلَّ على شدةِ اتصال وقوعِ الجوابِ بوقوع الشرطِ، حتى كأنّه وقعَ معه، والمعنى: ومَن يترك الإيمان ويُعرضْ عنِ الآياتِ البيناتِ، ويختارُ الكفرَ بسؤاله سؤالَ أهل الكفر؛ فقد حاد عن الجادَّةِ، التي هي وَسطُ الطريقِ وأعدلٌه، والتي فيها نجاتُهُ، ووقعَ في أعظمِ الضّلال؛ لاختيارهِ طريق الكفر.

﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ﴾.

(وَدَّ) تمنّى وأَحبّ كثيرٌ مِن أهلِ الكتاب مِنَ اليهودِ، وعلى رأسِهم أحبارُهم، وليسوا كلّهم؛ ليخرجَ مَن آمنَ منهم، تمنّوا (لو يرُدُّونَكم) أن يردُّوكُم، فـ(لوْ) بمعنَى (أَنْ) يؤوَّلُ ما بعدَها بمصدرٍ، لكنّها لا تنصب، تمنوا ردّكم (كفارًا) حالٌ مِن مفعولِ يردونَكُم، أو مفعولٌ ثانٍ، على تضمينِ يردونَكم معنى يصيِّرونَكم (حَسدًا) مفعولٌ لأجلهِ، هذا التمنّي سببُه وعلتُه الحسدُ لا غيرُه (مِن عندِ أنفسِهم) مِن ابتدائيةٌ، تدلّ على تَأَصُّلِ الحَسدِ فِيهم، وصُدورهِ مِن قِبل نُفوسِهِم، لا عن التديّنِ طاعةً لدينهم كما يزعمونَ، وتأَكَّدَ بالعنديةِ في قوله: (عِنْدِ) المتعلقة بـ(حسدًا) الدَّالّةِ علَى التمكنِ والِاستِقرارِ.

(فَاعفُوا) العفوُ تركُ العقوبةِ (واصفَحُوا) الصفحُ الإعراضُ وعدمُ اللّومِ، وعُطف على العفوِ لأنّه أبلغُ منهُ، فالصفحُ ليس فقطْ عدم العقوبةِ، بل تركُ اللومِ والتثريبِ (حَتّى يأتِيَ الله بأَمرِهِ) حتّى للغايةِ؛ غاية العفوِ وغضِّ النظرِ عن أذاهم أنْ يؤذَنَ لكمْ في قتالِهم وإخراجِهمْ، فقاتلَ المسلمون قريظةَ، وأخرَجُوا بني النظير، والمعنى: يتمنّى اليهودُ لو ترجعون عن الإسلامِ، وتصيرونَ كفارًا مرتدّين عنه، بعد أن أعزَّكم الله بهِ، وما يدفعُهم إلى ذلكَ إلَّا الحسدُ، المنبعثُ مِن قِبل نفوسِهم، وما تميلُ إليه أهواؤُهم، وليسَ التدينُ والحرصُ على دينِهم، وهم يفعلونَ ذلكَ لا عن قِلةِ علمٍ، بل عن علمٍ كاملٍ بالنبي صلى الله عليه وسلم، بعدَ أن تبينَ لهم صدقُه، ووضحتْ آياتُه ومعجزاتُه، ومن المصلحةِ أن تعفُوا عنهم وتصفحُوا، فلا تعاقبُوهم، ولا تلوموهُم، إلى أنْ يأذنَ اللهُ لكم بقتالِهم وإخراجِهم.

﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ لو شاء لعجَّلَ لهم العقوبةَ، وسلّطكُم عليهم، ولكن لحكمةٍ أمرَكم بالعفوِ والصفحِ عنهم إلى حينٍ.

 


[1]) شجرة كان يتعلق بها أهل الجاهلية. [والحديث أخرجه أحمد:21390، والترمذي:2180 وقال: «حسن صحيح»].

[2]) المائدة: 101.

[3]) الدخان: 47.

التبويبات الأساسية