بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (52).
(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
)إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ) الذلول السهلة المنقادة للخدمة، من ذل يذل ذِلا إذا انقادَ، والمعنى: أمَا وقدْ زدتم تطلبون أوصافَ البقرة التي أُمرتم بذبحها، فإنها بقرة ليست كمعتاد البقر، ليست منقادةً ولا سلسة، بل نافرة ومشاكسة، لم تطبع على خدمة، ولم تتعوّدْها، فليس من أوصافها ولا من طبعها أنها (تُثِيرُ الْأَرْضَ) تقلبُها وتحركها للزرع، (وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) ليست ممتهَنة لخدمة سقي ما يحرث ويزرع، فهي بقرةٌ مدللةٌ مكرمة، (مُسَلَّمَةٌ) سالمة من العيوب في خلقتها (لَا شِيَةَ فِيهَا) من الوشي وهو العلامة، أي خالصة اللون للصفرة الفاقعة، ليست بها علامة على ما جرت به العادة في الحيوان، أن يختلط بلونه الأصلي لونٌ آخر في رأسِه ورقبته، كما في البقر والخيل والكباش، فمثلا يُقال كبشٌ أَدْرَع، للذي برأسه ورقبته أو قوائمه لونٌ مخالفٌ لباقي جسدهِ بالسواد أو البياض، وفيما كان كذلك من الخيل فرسٌ أَبْلَق، وكون البقرة خالصةً تشعّ بالصفرةِ لا شِيَةَ فيها، هو على خلافِ المُعتاد، وممّا يعسُرُ العثورُ عليه لنُدرتِهِ، ومَا أدّى بهِم إلى هذا العَنتِ إلا التعَمّقُ في السؤالِ المنهيّ عنه، ففي البخاري من حديث سعد بن أبي وقّاص قال: قَال رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ)[1]، وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ)[2].
(قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) زعموا أنهم لم يفهموا ما طلب منهم على وجه الصواب والحقّ، إلا بعد هذا التعمق في السؤال، والتفصيل المتشدد في الوصف (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) فعلوا أخيرًا ما أُمِروا به، وذبحوا البقرة، ولكن بعد لأْيٍ ومماطلةٍ متكررةٍ، وعندما يفعلُ الإنسان أمرا آخِرَ ما يكون، بعد أن فرط فيه وتباطأ عليه، يقال: ما كادَ يَفعلُه، أي فعله بعد جهدٍ وبطء، ولم يقبل عليه ابتداءً، فكاد مع النفي تفيد وقوع الفعل بعد مشقةٍ وترددٍ، ومع الإثباتِ تفيدُ نفي الفعلِ وعدم وقوعه، فيقال لمن أرادَ فعل شيء ولم يفعلهُ: كادَ يفعلُه.
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا) قتلَ بعضُ اليهود رجلًا من عمومتِهم، ليس له وارثٌ، ليرثوه، وطرحوهُ بين أهلِه، وتنصَّلوا مِن قَتلِه، وطالبُوا بدمه (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) أي تدارأتم وتدافعتم التهمةَ، كلّ يرمي بها على الآخر، ويبرئُ نفسه منها (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) تدافعُكُم وتنصلُكم لن يفيدَ شيئًا؛ لأنّ اللهَ كاشفٌ ما تكتمونَ، مظهر الحقيقةَ، وفاضح أمر القاتل.
(فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) أمرَهم الله تعالى أن يُضربَ الميتُ ببعض من أعضاءِ البقرة التي ذبحوها، فتحصل المعجزة بإحياء الموتى (كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى) لمَّا ضربوه ببعضِ أجزائها أحياه الله فتكلم؛ وقال: قتلني فلانٌ، ثم أماتَه الله تعالى كما كانَ.
(وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ها أنتم تشاهدون بأبصاركم آيات الله؛ تشاهدون المعجزة الدالة على قدرة الله بإحياء من مات، فاعتبروا بها، فمثل إحياء هذا الميت الذي رأيتموه رأي العين، وأيقنتموه بإبصاركم؛ كذلك يحيي الله تعالى الخلائق في القيامة، فهلّا صدقتم وآمنتم، وتركتم العنادَ.
)ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) عجبا بعد هذا البرهان المحسوس بإحياء الموتى، الذي لا تملكون ردَّه، تبقى قلوبُكم قاسيةً متصلبةً، معرضةً عن الحق (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ) هي في قسوتها وتصلبها، وعدم قبولها التحول عن جمودِها، كالحجارة الشديدة القاسية، التي لا ترِق لشيءٍ ولا تلين (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) بل هي في القسوة أشدُّ من الحجارة، (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ) من الحجارة ما تجده يطاوع ويتحول ويلين، فينفتح ويتفتت، وتتفجرُ منه الأنهار، ومنها ما يتشقق فيخرج منه الماء، (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) فيتحول عن جموده ويتأثر ويتساقط طاعة لأمر الله وقدرِه، ففي حين أن الحجارة القاسية تنقادُ لأوامر الله الكونية، فتتشقق وتهبطُ وتتفتتُ، وهي تسبح بحمد ربها، وإن من شيءٍ إلّا يسبحُ بحمدِه، فإن قلوبَ هؤلاء على حالة واحدة، لا تخشى خالقَها، ولا تتحولُ عن قسوتِها.
(وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الله مطلعٌ عليهم، غير غافلٍ عن أعمالهم.
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) الطمعُ ترقبُ أمرٍ مرغوبٍ بعيدِ المنالِ، والخطابُ للمسلمين، على جهةِ الاستفهام التعجيبيّ، مِن طمعهِم في إيمانِ مَن علموا أنّ قلوبَهم أقسَى من الحجارة (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أصلُ التحريف الجنوحُ إلى الحرفِ والطرفِ، وتركُ الجادّةِ، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)[3]، والمراد به تبديل الكلام بغيره، أو تأويله تأويلا فاسدًا بعيدًا، والمعنى أنّ الطمع في إيمان من كان على هذا النمط مِن القسوةِ والتحريف والتبديل بعيدٌ، فقد كان فريقٌ مِن علمائهم وأحبارِهم يسمعونَ كلام الله المنزل على رسولهِ، ثم يحرفونَه بتبديلٍ أو تأويلٍ فاسدٍ، فهم يحرفونَ كلام الله على علم وجرأةٍ، بعد أن تدبروهُ وعَقلوه، فليسَ لهم عذرٌ.
[1] [البخاري:6774،ومسلم:4356].
[2] [البخاري:6858،ومسلم:1337].
[3] [الحج:11].