بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (48).
(اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
تكرر من بني إسرائيل الجفاء وكفران النعمة، ولهذا الجفاء وسوء الطبع منهم، لم يجابوا هذه المرة كالعادة إلى سؤالهم: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها)، بل طلب منهم أن يجتهدوا لأنفسهم، فقيل لهم: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) ادخلوا مصر، طلب منهم أن يتكلوا على أنفسهم في الوصول إلى طلبهم، مع وضوح عجزهم في ذلك الوقت عن تحقيقه، حيث كانوا في التيه، ضالين الطريق، فالأمر لهم بدخول مصر وهم في تلك الحال، أمر تعجيز، كالأمر في قوله تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا)[1].
و(مِصْرًا) قيل: هي علم على البلد المعروف مصر فرعون في ذلك الوقت، وبه قال مالك، وصُرفَ لفظها مع وجود علة المنع من الصرف: العلمية والتأنيث، على معنى البقعة؛ لخفتها بإسكان وسطها، كما قالوا في دعد وهند.
وقيل: المراد بقوله (ادخلوا مصرًا) قرية من القرى غير معينةٍ، بدليل تنكيرها وصرفِها؛ ولأنهم سكنوا الشامَ بعد خروجهم من التيه.
(فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) الفاء عاطفة تفيد التعليل وربط الجملتين، فبهبوطكم مصر تجدون سؤلكم، (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) عطف على جواب موسى في قوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا)، تتميم له بوصفهم بما يستحقون، أي: هذا وصف حالهم: الذلة والصغار والضعف والحاجة؛ لجبنهم عن دخول الأرض المقدسة، وقتال الجبابرة، واستبدالهم البصل والثوم بطعام الملوك، وهذه الأوصاف من الذلة والحاجة، لا شك أنها تنتابهم وتصيبهم في أزمان وأماكن مختلفة، وسببُ ذلك أنهم (بَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) باءوا من البوء: الرجوع ولزوم الشيء، ومنه في دعاء الاستغفار: (أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي)[2] أَرجعُ بكل النّعم إليكَ وألتزمُها، ورجعتُ إليكَ بذنبي ولزمنِي، وقوله: (وبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ)، أي: آل أمرُهم ورجع إلى الخسران، ولزمهم غضبُ اللهِ ومَقتُه، وسببُ غضبِ الله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)، والإشارة بالمفرد (ذلك) إلى المتعدّدِ مِن ضَربِ الذلةِ والمسكنةِ إلخ، على معنى ذلك المذكور؛ لأنّ المذكورَ وإن كان متعددًا فمضمونُه واحدٌ، كما في قوله تعالى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)[3]، فالباء في قوله: (بأنهم كانوا يكفرون) للسببية، فسبب نزول الذلة بهم كفرهم، وتكذيبهم لما أنزله الله تعالى من الكتاب، ولما أظهروه مِن العداءِ والعصيان لأنبيائهم، وهذا يُشعر بأن ما وُصفوا به وما وقع عليهم من الذلة والمسكنة عام لهم جميعًا؛ الذين اتصفوا بالتكذيب في عهد موسي عليه السلام، ولمَن بعدَهم من اليهود، لا خصوص مَن يخاطبُهم موسى عليه السلام.
(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) يقرأ نافع (النبيء) بالهمز في القرآن كله، على الأصل من (أنبأ) أتى بالخبر العظيم، وهو إخبارُه عن الله تعالى بالوحي، عدا موضعين في القرآن؛ في الأحزاب: (إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ)[4]، (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ)[5]؛ وذلكَ لاجتماعِ همزتينِ مكسورتينِ، وغير نافع يقرأ النبيين بالياء، مِن نَبَا يَنبُو، بمعنى ظهر وارتفع، أو مِن أنبأ كالأول، وقُلبت الهمزة ياء.
(بِغَيرِ الحَقِّ) أي: ظلمًا وعدوانًا، وقَيْدُ بغيرِ الحقّ صفةٌ كاشفةٌ؛ لبيان الواقعِ القبيحِ لفعلهم، فلا مفهومَ له، فليس هناك قتلٌ للأنبياءِ على وجهِ الحقّ البتّة؛ لأنّ الأنبياء عليهم السلام معصومونَ عمّا يستوجبُ القتل، ولكن هذا هو حالُ بني إسرائيلَ معهم، ومِن أنبياءِ الله الذين قتلوهم، يحيى وزكرياء عليهما السلام، والجمع في (الأنبياء) و(يقتلون) للمبالغة، يدلّ على كثرة وقوعهم في ذلك.
وكل مَن قتل من الأنبياء لم يؤمروا بقتال أعدائهم، فما من نبيء أُرسلَ وأُمر بقتالٍ إلّا ونصرَه الله، كما قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)[6]، وقال تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[7].
(ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) الإشارة بـ(ذلك)، إمّا أن تكون عائدةً لضربِ الذلة عليهم، فيكون عصيانهم المذكور علةً أخرى، بعد تعديهم وقتلهم الأنبياء بغير الحق، ويكون السبب الثاني تأكيدًا للسبب الأول؛ لأنه في معناه، ولم يعطف قوله (ذلك بما عصوا) على السبب الأول؛ ليفيد استقلالَه بالسببية، ولا مانع مِن تعددِ الأسباب للعقوبة الواحدة، وأكدَ السبب الأول: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون)، دون السببِ الثاني: (ذلك بما عصوا) لأن الأول وهو قتل الأنبياء مستغربٌ غير معتادٍ، بخلاف الثاني، وهو العصيان، فحصولُه معتادٌ منهم ومِن غيرهم، وإمّا أنْ تكون الإشارةُ الثانية (ذلك بما عصوا) عائدةً إلى السبب الأول، وهو الكفرُ وما بعده، فيكون السببُ الثاني - وهو عصيانهم وعدوانهم - سببًا للسببِ الأول، وهو كفرُهم وقتلهم الأنبياء، فيدل على أنّ المعاصي قد تكونُ لها عواقبُ وخيمةٌ، تُفضي بصاحبِها إلى المزيدِ الأشدّ منها، والتنقل فيها إلى ما هو أشنعُ وأقبحُ.