بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (47).
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).
(لَنْ نَصْبِرَ) الصبْرُ حملُ النفسِ على المكروه، وظهرَ مِن نفيِهِ عن أنفسهِم في المستقبلِ بـ(لن) مللُهُم وضجَرُهُم الشديد مِن بقائِهم على هذا النوعِ من الطعام؛ المنّ والسّلوى وحدَه، يريدُونَ معه البقلَ وما عُطف عليه من الثوم والعدس والبصل، وسمّاه القرآن استبدالًا لأنه بقدرِ ما يتناولُ الآكلُ مِن الطعامِ الجديدِ بقدرِ ما ينقصُ تناولُه للأولِ، فيكون ذلك استبدالًا له، فكأنهم يقولون إنّهم وإن تحمّلوا وصبروا على المنِّ والسلوى وحدَهما حينًا، فلنْ يتحملوهما في المستقبل، كما أن طلبَهم للبصلِ والثومِ عوضًا عن المنّ والسّلوى، يدلُّ على بلادةِ طبعِهم، وعِكر أحوالِهم.
والطعام يطلقُ على ما يؤكل، كما في قوله: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا)[1]، وعلى ما يُشربُ، كما في قوله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا)[2]، أي شربوا من الخمرِ، ويطلقُ على مجردِ ذوقِ الشيءِ، كما في قوله: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)[3].
(فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ): الدعاءُ هنا بمعنى السؤال، أي: اسألْ ربّكَ أنْ يُخرجَ لنا ممّا تُنبت الأرضُ، وأُتِيَ بـ(يُخرجْ) فِعلا مجزومًا على صورةِ جوابِ الطلبِ دونَ قولهم (أنْ يخرجَ) على النصبِ؛ لوثوقِهم بتحققِ وقوعِ مرادِهم لو سألَ موسى ربَّه؛ لِما تعودُوه منهُ مِن قبلُ، فأتَوا بالفعلِ على صورةِ الشرطِ والجزاءِ؛ لأنّ الجزاء يقعُ فورَ تحققِ الشرطِ.
(مِنْ بَقْلِها) مِن بيانية، لتخصيص بعض ما تنبتُه الأرضُ، والبقلُ كلّ نباتٍ لا ساقَ له، وما لهُ ساقٌ يسمَّى شجرًا، (وقثائِها) القثاءُ والمَقاثِي البطيخُ والخيارُ ونحوه، (وفُومِها) الأظهرُ أنه الثّوم، والثاءُ تُبدلُ فاءً، وقيلَ: الفومُ الحنطةُ، وقيل الفولُ، (وعَدَسِها وبَصَلِها) معروفان، وكلّ هذا ممّا اعتادوا أكلَهُ في مصر، لذا أجابَهم موسَى عليه السلام بقولِه: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ)، واستحقّوا هذا الجوابَ بإعراضِ موسى عنهم، أن يسألَ لهم ربَّه، وإحالتِهم على أنْ يسعوا في طلبِ ذلك بأنفسِهِم بأنْ يدخلوا مصرَ، بحثًا عن الفوم والعدسِ، طلب منهم ذلك مع ظهورِ عجزِهم؛ تعنيتًا لهم، وهو مِن تخلّي العنايةِ عنهُم.
والمعنى أنّه عندما أنعمَ الله على بني إسرائيل في صحراء مجدبةٍ بالمنِّ والسلوى، وهو طعامٌ طيب، يجمعُ بين لذةِ المذاقِ، وطيبِ الريح والأثرِ، اشتاقوا مع هذا النعيمِ إلى ما كانوا تعودوا عليه في مصر؛ من الثوم والبصلِ والكراث، مع لسعِ مذاقِها ونتنِ ريحِها، فقالوا لموسى عليه السلام: لن نصبرَ على طعامٍ واحدٍ، وسموه طعامًا واحدا مع أنهما طعامان: مَنٌّ وسَلوى؛ تقليلًا من شأنِهِما، ولتلازمِهِما معًا كلّ يومٍ، فأنكرَ عليهم موسى عليه السلام ذلكَ، ووبَّخَهم بقوله: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)، الاستبدال: وضعُ الشيءِ موضع غيرِه، يكونُ أحدُهما مأخوذًا والآخرُ متروكًا، وإذا تعدّت مادةُ الاستبدالِ إلى مفعولينِ بنفسِها، كان الأولُ متروكًا والثانِي مأخوذًا، كما في قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)[4]، وإذا تعدت إلى مفعولٍ بنفسِها وإلى الآخرِ بحرفِ الجرّ؛ كانَ الأولُ مأخوذًا، وما دخلَ عليه حرفُ الجرِّ متروكًا، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)[5].
وقوله: (أَدْنَى) مِن الدنيءِ، وهو الأخسُّ، أو مِن الدُّون، وهو الأحطُّ قدرًا، والمعنَى متقاربٌ، والتفضيلُ في أدنَى ليس على بابِهِ، فالمنُّ والسلوى ليس فيهما دناءةٌ، بل وُصفَا بقوله: (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)، والخيريةُ فيهما مِن جهتين؛ مِن جهة حصولِهما دونَ كُلفةٍ ولا مَشقةٍ، ومِن جهةِ أنهما طعامٌ طيبٌ لذيذٌ، ويؤخذُ مِن إطعامهم المنَّ والسلوى، تفضيلُ اللذائذِ المباحةِ، وإباحةُ الاستمتاعِ بها، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلّم يحبُّ الحلواءَ والعسل.
والاستفهام (أَتَسْتَبْدِلُونَ) للتعجيب مِن حالِهم وسؤالِهم، كيفَ يطلبونَ الرديء الأحطَّ الخبيثَ الريحِ، ويردُّون الجيدَ اللذيذَ الطيّبَ مِن الطعامِ!
[1] [الأحزاب:53].
[2] [المائدة:93].
[3] [البقرة:249].
[4] [الفرقان:70].
[5] [النساء:2].