بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (45).
بعض ما أشارت إليه الآيات السابقة من أحداث قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام:
أرسل الله تعالى موسى إلى بني إسرائيل، و كان قد تربّى في بيتِ فرعون، وفرعون موسى يقول عنه المؤرخون هو رمسيسُ الثاني، المحتفظ به محنطًا الآن في مصر، وجعله الله آية لمن بعده، يتنقلُ به بين المتاحف، قال الله تعالى عنه: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)[1].
وقد عَلِمَ موسى عليه السلام عندمَا خرج من قصرِ فرعونَ أنّه من بني إسرائيلَ، وليسَ قِبطيًّا، وتعرضَ عندما بلغَ أشدّه لأنِ استغاثَ به رجلٌ من شيعتِه على رجلٍ قبطيّ، فانتصرَ له، ووَكَزَ القبطيَّ فمَاتَ، فخافَ أنْ يؤخذ به، فنُصحَ بالخروجِ مِن مصر، فانتهت به الرحلة إلى مدينَ، وتزوجَ ابنةَ شعيب عليه السلام، ثمّ خرجَ مِن مَدينَ بعدَ عشرِ سنين، وعمرُه يومئذٍ نَيفٌ وأربعونَ سنةً.
أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يخرجَ ببني إسرائيل مِن مصر، وينقذَهم مِن ظلمِ فرعون، فخرجَ مع قومِه من مصرَ بعد هلاكِ فرعون، ووعدَهم الله تعالى الأرضَ المقدسةَ، التي كتبها لهم.
وكانت الأرض المقدسة في أيدي الجبارين (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ)[2]، فاحتاجُوا إلى قتالِهم، وقالوا لموسى: اذهبْ أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون! وقالوا له: لو أنك تركتنا في يدِ فرعونَ كان خيرًا لنا، فدعا عليهم وسمّاهم فاسقين، فبَقوا في التيهِ أربعينَ سنةً عقوبةً لهم من الله، يتيهونَ في خمسةِ فراسخَ أو ستّ، يمشونَ النهارَ كلّه، وينزلون للمبيت، فيصبحونَ حيثُ كانوا، ولمّا شكوا شمسَ الصحراءِ أنزلَ الله عليهم الغَمامَ، ولمّا شَكوا الطعامَ أعطاهمُ المنَّ والسَّلوى، ولما شكوا الشرابَ انبجَست لهم مِن ضَرْبِ الحجرِ اثنتا عشرةَ عينًا .
ثم قيل لهم: قد وصلتم إلى بيت المقدس، فادخلوا البابَ سُجدًا وقولوا (حِطّة)، فحرّفوا القول، وعصوا الأمر، وقالوا: حَبةٌ في شعرةٍ، ودخلُوا الأرض المقدسة يزحفونَ على أستاهم.
ثم سألوا موسى أن يأتيَهم بكتاب من عند الله، فواعدَه الله تعالى أن يكون ذلك بعد أربعينَ ليلة، ينقطعُ فيها موسى عن قومِه لعبادةِ ربّه؛ ليعدّه لمناجاته وكلامِه، وقال لأخيهِ هارونَ: اخلُفنِي في قومِي وأصلِحْ.
فعدّ قومُه - الذين كانوا ينتظرون رجوعه - عشرينَ يومًا وعشرين ليلةً، وقالوا: قدْ أخلَفَنَا موعدَهُ، فاتخذوا العجلَ الذي صنعُوه مِن ذهبٍ وفضةٍ مِن حُليِّهم وعبدُوه، متشبهينَ بقومٍ مرّوا بهم مع موسى، كانوا يعبدونَ تمثالًا له رأسُ عجلٍ، وقالوا لموسى حينها: اجعل لنا إلَاهًا كما لهم آلهةً.
أتى لهم السامريُّ بالعجلِ، وقال: هذا إلاهكُم وإلاهُ موسى، ونهاهُم هارون، وقال: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)[3]، قالوا: (لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ)[4]، فلم يسمع لنصح هارون إلا القليلُ منهم، وتهافَتَ أكثرُهم على عبادةِ العجل، وبعد أن وافى موسى ربّه عند الطورِ في الميقاتِ، وكَلَّمَه ربُّه، وأعطاهُ الألواحَ وفيها التّوراة، رجعَ إلى قومه، فوجدَهم على تلكَ الحالِ مِن عبادةِ العجلِ، فأسِفَ وغضبَ غضبًا شديدًا، ولامَ أخاه هارونَ، وألقَى مِن غضَبِهِ الألواحَ التي تلقّاها، وأخذَ برأسِ أخيه يجرّه إليهِ يلومُه، وأحرقَ العجلَ وذَرَاهُ في البحرِ، فشربوا مِن مائِهِ حبًّا للعجلِ، ثم ندمُوا، ولم تُقبَل توبتُهم إلا أن يقتلوا أنفسَهم، كما قال تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)[5]، فلمّا قتلَ بعضُهم بعضًا عَجَّ موسى إلى الله ليعفوَ عنهم، فأمرَه أن يختارَ سبعين رجلًا مِن خيرتِهم، يخرجونَ إلى الطورِ، يتضرعونَ إلى الله أن يرحمَهم، فلما جاؤوا مع موسَى إلى ميقاتِ ربه ليتضرعوا، ولحقهم أقوام من قومهم، طلبوا مِن موسى أنْ يريَهم اللهَ جهرةً عَيانًا، فأهلكَهُم الله تعالى، وأخذتهم الرجفةُ، وماتوا حرقا، واشتد على موسى الأمرُ؛ لأنّ قومَه ينتظرونَهم: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا)[6]، فرحمَهُم، وقَبلَ توبةَ مَن بَقيَ.
وعندما ماتَ هارونُ قالوا لموسى: أنتَ قتلتَ هارون وحسدتَهُ، حتّى نزلتِ الملائكةُ بسريرِهِ وهارونُ ميتٌ فوقه، ثم سألوهُ أن تأتيَهم آيةٌ في قَبولِ قُربانِهم، فجعلت نارٌ تجيءُ مِن السماءِ فتأكلُ قربانَهم.
ثم سألوه أنْ بَيّن لنا كفاراتِ ذنوبِنا في الدنيا، فكانَ مَن أذنبَ ذنبًا أصبحَ على بابِه مكتوبٌ: (عملتَ كذَا وكفارتُه قطعُ عضوٍ مِن أعضائِك) يسميهِ له، ومَن أصابَه بولٌ لم يطهُر حتى يقرضَه، ويزيلَ جلدتَه مِن بدنِهِ.
ثمّ بدّلوا التوراة وافتروا على الله فيها ما كتبوهُ بأيدِيهم، واشتروا بها ثمنًا قليلا، ثم صارَ أمرُهم إلى أنْ قتلوا أنبياءَهم ورسلَهم.
فهذا بعض ما تعاملَ به اليهودُ مع ربّهم، وهذه سيرتُهم مع أنبيائِهم ورسلِهم.