بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (12)
(خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ)
الختمُ على القلب؛ الطبعُ والإغلاقُ والاستيثاقُ، والخاتم: الطابع، وهو ختم شديد مستحكم، عُدِّيَ فعلُه بـ(على)، التي تفيد الاستعلاء على الشيء والسيطرة عليه والتحكم فيه، أي: ختمًا راكبا عليها مسيطرًا، متمكّنا منها غاية التمكن، كما يقال: فلانٌ ركب رأسه، إذا بلغ الغايةَ في العزم على المضي فيما لا حكمة فيه، وما كان حاله في الختم من القلوب كذلك؛ لا يدخله إيمان ولا هداية، ولا يقبَلُ حقا.
والقلوبُ؛ جمعُ قلب، والقلبُ: خالصُ كلّ شيء ولُبُّه، والمراد به العضو المعروف من الإنسان، وإذا فسد في الشيء لبه وقلبُه تعفّنَ سائرُه، وقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)[1].
وسمي قلبًا لتقلّبِه، وسرعةِ توارُدِ الخواطر عليه، وقد روي: (مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ بِأَرْضِ فَلاةٍ ، يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ)[2].
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)[3] ، و(يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك)[4] [ابن ماجه:204]، وقال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)[5].
والختم على القلب من أسبابه الذنوب والمعاصي، فالجوارح بارتكاب المعاصي تفسد القلب، قال الله تعالى: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[6]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ الرجلَ لَيصيبُ الذنبَ فيسوَدّ قلبُه، فإذا هو تابَ صُقِل)[7].
والقلبُ موضعُ الفكر والفقه والبصيرة من الإنسان، وفي القرآن: (لَهم قُلُوبٌ لَا يفقهونَ بِها)[8]، ونسبةُ الفقه والعقل إليهِ - معَ ما عُلم مِن أنّ العقل مِن وظائف الدماغ - لعلّه يرجعُ إلى ارتباط عمل العضوين، حتى كأنهما شيء واحد، فالقلب هو الذي يمدّ الدماغَ بالحياةِ، فلو تعطَّل ولو بُرهةً، توقفت خلايا الدماغ وتلفت؛ فماتَ العقل، فهو سببُ حياتِها.
وقد تكونُ للقلب أسرارٌ أخرى في وظائفِ علاقتِه بالعقل، لم تُعرف بعد، وقد لُوحِظ في العصر الحديث، أنّ مَن أُجريت لهم عمليةُ زراعةِ القلب، تغير سلوكُهم وتغيرت أحوالُهم تغيّرًا كاملا عما كانوا عليه، وهذا من عجائب أسرار القلب، التي لا تزال غامضة.
وقد عبّر القرآن عن القلب بالصدر؛ كما قال تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)[9]، وعبر عنه بالفؤادِ، قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)[10]، وكنّى به عن العقل؛ كما قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)[11]، أي عقل.
وقُدم السمع في القرآن على البصر، قالوا لعل ذلك لتقدمه في الوجود، فالإنسان يسمع وهو جنين نبض قلب أمه، قبل أن يولد، لكنه لا يبصر إلا بعد أيام من ولادته، وللسمع فضيلة أخرى أنه يدرك الأصوات التي تصل إليه مِن كلّ الجهات، وفي الظلمة وفي النور، على حين أن البصر يحتاج في حصول الرؤية إلى المقابلة، وإلى الضوء، فلا يدرك في الظلمة.
وجُمعت القلوب في الآية وأُفرد السمع؛ قالوا في النكتة لذلك لأن السمع واحد، فمثلا لا يقدر أحد أن يسمع خطيبين يتكلمان معا، على حين أنه يبصرهما، ولأن السمعَ مصدر، والمصدر يقعُ على القليل والكثير، فاستغني عن جمعه، أو لأنهُ مفردٌ مضاف، والمفرد المضاف كذلك يعم، كما في قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[12]، فإنه يعم كل أمر، وقوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)[13]، فإنه يعمّ كل نعمة.
والسمع: هو موضع الجارحة، وإعادة حرف الجر (على) مع (سمعهم)، دونَ الاكتفاء بذكره مع القلوب، تدلّ على شدة الختم عليهما معا في الموضعين، أي: تَمّ الختمُ بأقفال عليها بعد أقفال، واشترك السمع مع القلب في تعلقه بفعل ختمَ؛ لأنّ أحدًا لا يسمعُ إلا مع عقل، بخلاف البصر؛ فلا يحتاج إلى عقل، ولذا لم يشترك معهما في الختم.
والختم على السمع، معناه عدمُ الانتفاع بما يسمعون، مع قابلية آذانهم لإدراك الأصوات، كما قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)[14]، وكما قال عنهم: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)[15].
(وَعَلَى أَبْصَارِهِم غِشَاوَةٌ): غِشاوةٌ وزن فِعالة، وزن لكلّ شيءٍ مشتملا على شيء محيط به، كالعِمامة واللفافة، والعصابة والوقاية، ونحو ذلك.
والغشاوة غطاءٌ ساترٌ شامل، لا يُقدر معه على الرؤية، وتنكيرها للتعظيم والتهويل، أي أن على أبصارِهم غشاءً وساترًا عظيمًا هائلًا، يُخالف ما تعارفَ عليه الناسُ، والمراد هنا تعاميهم عن الحق، وعدم اهتدائهم إليه، مع أنّ أبصارَهم مفتوحة، كما قال تعالى: (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا)[16]، وقال: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)[17].
و(غِشَاوَة) قُرئ بالنصب، على تقدير: وجعلنا على أبصارهم غشاوة، على حدِّ قولهم: (مُتقلّدًا سَيفًا ورُمحًا)، أي: معلقا سيفًا وشاهرا رمحا؛ لأن الرمح لا يعلقه المحارب، وإنما يمسكه، وقول الراجز: (عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا)، أي: وسقيتُها ماء.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ): رتَّبَهُ على إعراضهم؛ ليدلَّ على أنهم استحقوه لِكفرهم، والعذابُ مِن أعذبَ عن الشيءِ؛ امتنع وأمسك، ومنه الماءُ العذب؛ لأنه يمنع العطش، والعذاب كالنّكال وزنًا ومعنى، إلا أن النكال فيه معنى الرّدع، والمراد به الألمُ الفادحُ الموجع، الذي لا يُصبر عليه، ولا يقضى على صاحبه فيموت، سمّي الألم على هذا النحو عذابًا؛ لأنّه منَعَ صاحبَه مِن كل ما يلائمُه من الراحةِ، ووصفه بالعظيم مع تنكيره زيادةٌ في شدته، أي: عذاب لا يعلم كُنه عظمه وشدته إلا الله تعالى، ويوصف الشيءُ الهائل بالعظيم، وبالكبير، إلا أن مِن أهل العلم من يرى أن العظيم فوق الكبير، وأبلغ منه؛ لأن نقيض العظيم الحقير، ونقيض الكبير الصغير، والحقيرُ أقل شأنًا مِن الصغير، فيكون العظيم أعظم شأنًا وأكثرَ إيلامًا من الكبير، وهذا ممّا يُعرف عندَ الأصوليين مِن الاستدلال بقياسِ العكس، والاستدلالُ به ضعيفٌ عندهم، لذا فإن من أهل العلم مَن يرى أن الكبيرَ فوقَ العظيم؛ لأن الحقير الذي هو نقيض العظيم، أقل شأنًا مِن الصغير، فما لم يكن حقيرًا هو عظيم، ويمكن وصفُه بالصغير؛ لأن الصغيرَ فوق الحقير.
[1] [البخاري:52،مسلم:2996].
[2] [مسند البزار:3037].
[3] [الترمذي:3522،وقال:حديث حسن].
[4] [ابن ماجه:204].
[5] [الأنفال:24].
[6] [المطففين:14].
[7] [الترمذي:3334،وقال:هذا حديث حسن صحيح].
[8] [الأعراف:179].
[9] [الشرح:1].
[10] [الفرقان:32].
[11] [ق:37].
[12] [النور:63].
[13] [النحل:18].
[14] [الأنفال:21].
[15] [الأنفال:22].
[16] [الأعراف:179].
[17] [الأعراف:198].