بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (90).
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:171-173].
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ) ينعق مِن نعق، كضرَب ومنَع، مِن النّعق وهو نداء الغنم، يقال: نعقَ الراعي بالغنم إذا صاح بها وزجرها، و(لَا يَسْمَعُ) بمعني لا يعقل ولا يفهم، ومفعول يسمع محذوف، تقديره النداء، والمعنى: مثلُ الذينَ كفروا كالبهائم، التي لا تفقه في ندائها أكثر من مجرد الصوت، وهو تمثيل هذه الهيئة والحالة بحالة بهائم الأنعام، التي ينادى بها، فهي تسمع أصواتًا ولا تفقه معنًى.
(دُعَاءً وَنِدَاءً) الدعاء استدعاء القريب، والنداء استدعاء البعيد، ولذا سمّي الأذان نداءً، وهو تمثيل بليغٌ لحال من تقدم ذكرهم من المشركين، في تقليد آبائهم لعبادةِ الأوثان تقليدًا أعمى، دون إعمالٍ لعقولهم في فهمِ ما يسمعون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعوهم إليه من الهدى.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) تقدمَ معناهما في أولِ سورة البقرة، خبرانِ لمبتدأ محذوف، يمكن عودهما على المشركين مجازًا، فلعدم انتفاعِهم بالخطاب شبهوا بالعجماوات، ويمكن عودهما على الأصنام، فيكون حقيقة (فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) ضمير (هم) للعقلاء، فإن أريد بهم الأصنام فهو من باب التهكم؛ لأن المشركين زعموها كذلك، وأن أريد بهم المشركين فهو للتنبيه على غبائهم، في عبادة ما لا يعقل.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) بعد أن أمر الله المشركين بالأكل مما رزق الله من الطيباتِ في قوله: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) ، خصَّ المؤمنين بخطاب مماثل، وأمرهم بشكره، والاتيان بالظاهر في قوله (لِلهِ) دون الضمير؛ للتنويه بالاسم الجليل، وأنه الذي يستحق الشكر وليس الأصنام، والأمر بمطلق الأكل من رزق الله أمرُ إباحة، وتقييدها بالطيب الحلال للوجوب، والأمر بالشكر أيضًا للوجوب، وتقدم معنى كلٍّ مِن الطبيات والرزق والشكر (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) المراد بالعبادة التوحيد وترك الشرك، وليس فقط أعمال الطاعات الشعائرية، أي: إن كُنتُم ممن يتصفون بالتوحيد والإيمان، وتخصون بها الله وحده دون سواه؛ فلا تشكروا غيره، فجواب الشرط (إِنْ كُنْتُمْ) محذوف، تقديره: فاشكروه، دلَّ عليه المذكور، وتقديم ضمير الفصل (إِيَّاهُ) على الفعل (تَعْبُدُونَ) يفيد قصر العبادة على الله واختصاصه بها.
(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) (إِنَّمَا) ما كافةٌ لإنّ عن العمل، فهي بمعنى النفي، تفيد مع إلَّا القصر، فالجملة تتضمن النفي والإثبات، تثبت الحكم للمذكور، تحريم الميتة وما بعدها، وتنفي التحريم عن غير المذكور، في قوة: ما حرم إلا الميتة ... وهو قصر إضافي، بالإضافة إلى ما كانوا يعتقدونه من محرمات لم يحرمها الله سبحانه وتعالى؛ كالسائبة والبحيرة، فالآية خطاب للمؤمنين، بأن هذه هي المحرمات، لا ما حرمته الجاهلية، والحرام ما منعه الشرع منعًا شديدًا، وعبر الأصوليون عن المحرم بما يذم فاعله، ودلالة الآية على تحريم الميتة دلالة نص، جاءت بلفظ التحريم، والتحريم حكم شرعي أسند إلى الميتة، والميتة من الأعيان والذوات، فإسناد التحريم إليها على تقدير محذوف، يقدر بحسب السياق.
ففي: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ)([1])، يُقدر نكاح أمهاتكم، وفي الميتة يقدر أكلها أو الانتفاع بها، والميتة ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يؤكل من الحيوان، أما ما لا يؤكل من المحرم، فذكاته وعدمها سواء، وهو ميتة على كل حال، ويلحق بالميتة ما انفصل عن الحيوان من أجزائه قبل الذكاة، واستثني من الانتفاع بالميتة ما استثنته السنة، كالانتفاع بجلدها إذا دبغ، كما استثنت السنة ميتة البحر، فإنها حلال بالاتفاق (وَالدَّمَ) الدم استقذاره معروف، وحرمه الله تعالى لأن العرب في الجاهلية كانوا يملؤون المباعر بالدم، ويُسوّونها على النار، ويأكلونها، وحرم الدم في هذه الآية مطلقًا، وقيد في سورة الأنعام بالمسفوح، واتفق أهل العلم هنا على حمل المطلق على المقيَّد، فلا يحرم مِن الدم إلا المسفوحُ، دونَ ما في العروق، والمسفوح المهراقُ، مِن السفحِ والصبّ، وهو الخارجُ عند إصابةِ أو ذبح ما تحلّه الحياة (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) العرب لم تكن معروفةً بتربية الخنازيرِ المتأنسَة في البيوت، فلعلهم كانوا يأكلونَ المتوحشَ منه، والآية تعم النوعينِ، وخصّ لحم الخنزيرِ دون شحمه وعظمهِ، مع شمول التحريم لهما؛ لأن اللحم هو المقصودُ الغالبُ منه، فلا يدل ذكره على إباحةِ ما سواه، ولعلّ في النصّ على تحريم أكلِ لحمه إيماءً إلى جوازِ الانتفاع بشيءٍ آخرَ غير لحمه؛ كشعره الذي كانوا يغرزون به الجلدَ، فيكون فيه دليل لمن ذهب إلى ذلكَ، ومنهم مالك (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) مادةُ هَلَّ وأهَلَّ وُضعت للأوليةِ ولرفعِ الصوتِ، فالهللُ أولُ المطرِ، والهلالُ أوّل ما يبدو القمر، وأهَلَّ الصبيّ إذا رفعَ صوته حين الولادةِ أوّل ظهوره، وأهلَّ بالحج رفعَ صوته بالتلبيةِ، وكانوا يرفعون الصوت عند رؤية الهلال بالتكبير، وعند الذبح باسم الصنم الذي يذبحونَ له، ثم استعمل الإهلال في رفع الصوتِ مطلقًا، وعُدي (أهلَّ) بالباء واللامِ لتضمينه معنى تقرّبَ؛ ليفيد تحريم ما تقربَ به لغير الله، ذُكر عليه اسم الصنمِ أو لم يذكر (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) (اضْطُرَّ) افتعال من الضرورة، والمضطر هو الذي ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من المحرمات، لفقد الحلال، أو لإكراه، والضرورة الشرعية التي تبيح الرخصة اتفق الفقهاء على تعريفها: بأنْ يجدَ الإنسان نفسه في حالة إن لم يستعمل الرخصة تعرض للهلاكِ، كله أو بعضه.
(غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) حال من نائب فاعل اضطر، وأصل البغي الطلب؛ لأن الباغي يطلب الفسادَ بخروجه على ولي الأمر.
وعادٍ من العدوان، وهو مجاوزة الحد، أي: من اضطر حالة كونه غير متجاوز حد ما تدعو الحاجة إليه من الأكل، وغير طالب للفساد بأكل ما حرم عليه ميلًا إليه، فشرط المضطر حين يأكل ألّا يكون باغيًا ولا معتديًا، فمَن اضطره الحال إلى أكل ما حرم عليه من الميتة وما بعدها ضرورة شرعية، وهي التي تودي بصاحبها إلى الإشراف على الهلاك، أو فقد عضو أو حاسة من حواسه، إن لم يأخذ بالرخصة، فمغفرة الله تعالى الواسعة تشمله، شريطة ألّا يكون في أخذه بالرخصة باغيًا ولا متعديًا.
[1]) النساء: 23.