المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 96 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (96).

 

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185].

 

 (شَهْرُ رَمَضَانَ) الشهر من الشهرة والظهور؛ لأنهم إذا رأوا الهلال يشهرونه، ليراه الناس[1]، ورمضان اسمٌ على فعلان، فعلُه رَمِضَ كفرِح، مشتق مِن الرمضاء، وهي الحرارة والالتهاب والاحتراق، سُمي بذلك لأنه كان يأتيهم في الصيف، وقت الحرارة الملتهبة.

وشهر رمضان عَلم على الشهر التاسع من الشهور القمرية، التي تبدأ بالمحرم، ويجوز أن يقال رمضان بدون ذكر شهر([2])، فقد جاء في السنة (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ)([3]) بدون شهر، وذُكر الشهر مع رمضان في الآية؛ ليفيد الدلالة على صوم جميع أيام الشهر، دلالة نص لا ظاهر، وحسنت دلالة النص هنا دون الاكتفاء بدلالة الظاهر؛ لترفع كل احتمال يوهم أن الأيام المعدودات قدْ لا تكونُ كامل الشهر.

وقوله: (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) معناه أنّ ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان، ويكون مِن إطلاقِ الجزءِ على الكلّ، أو أنّ القرآن أُنزل جملةً واحدة إلى سماء الدنيا في رمضان؛ لدلالة قوله (أنزل فيه القرآن) على نزوله جملة فيه، فإنّ اسم القرآن يطلقُ على جميع القرآن، لا على بعضه، ثم نزلَ بعد ذلك منجمًا في ثلاثة وعشرين عامًا، مِن بدايةِ الوحي إلى أن لحق النبيّ صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وكان نزوله إلى سماء الدنيا جملةً واحدةً، في ليلة القدر من شهر رمضان؛ لقول الله عزّ وجلّ: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ)([4])، وفي التنويه بشهر رمضان لنزول القرآن فيه، ما يفيدُ مشروعية التنويه والتذكيرَ بالأيامِ العظيمةِ القدْرِ في الشرع، كما قال تعالى: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ)([5])، وربط الحاضر بالماضي، كما في ذبح الأضحية والسعي بين الصفا والمروة، فالأول امتداد للذبح الذي فَدَى اللهُ تعالى به إسماعيلَ عليه السلام، والثاني امتدادٌ لسعي هاجرَ بين الصفا والمروة، مهرولة متلهفة على وليدها من الظمأ (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) هدًى وبيناتٍ حالانِ مِن القرآن، فالقرآن هداية وإرشاد إلى ما فيه مصالح الدين والدنيا، وفيه حجج وبراهين واضحة على التوحيد، وصحة هذا الدين، وهذه البينات والحجج فيها من الهدى والتنويرِ والترشيدِ ما يفرق به الناظر بين الحق والباطل.

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (شَهِدَ) تكونُ بمعنى حضر، على حد قولهم: شهد بدرا وشهد المشاهد، أي: مَن كان حاضرًا ولم يكن مسافرًا فليَصمِ الشهرَ، وأُظهر فيه لفظُ الشهر ولم يأت بضميرهِ "فمن شهده"؛ لِما في تكرير لفظ الشهر من التعظيم والتنويه به، ويمكن حمل (شَهِدَ) على معنى العلم بدخول الشهر، أي مَن عَلم وتحققَ دخولَ الشهر، فيكون (الشَّهْرَ) على حذف مضاف، أي حلول الشهر، وتكون هذهِ الآية (فمن شهد منكم الشهر) تأكيدًا وتنصيصًا، على أنّ ما تقدم الأمر به مجملًا في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) هو صوم رمضان، لا صوم آخر.

(وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) تقدم معناها في قولهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)[6]، وأعيدت هنا للدلالة على أنّ فطرَ المسافر والمريض خاصٌّ بصومِ رمضان، وأنه مخصوصٌ من عموم الصوم الذي دلّت عليه الآية المتقدمة؛ لأنّ ما تقدمَ في المريضِ والمسافر عند قوله: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) عام، ليس فيه تصريحٌ بصومِ رمضانَ.

وأيضًا لئلا يتوهم أنّ النسخَ الوارد على التخييرِ بين الفديةِ والصومِ في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) نَسخَ أيضا رخصةَ الفطر للمريض والمسافرِ، فأعيد ذكرهما للدلالة على أن الرخصة في حقهما قائمة لم تنسخ، والذي نسخ هو التخيير بين الصوم والفدية في حقِّ الصحيحِ، القادرِ على الصوم (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) هذه حكمة الترخيص للمريض والمسافر في الفطر، وهي أيضًا الحكمة  من جعل الصيام: (أَيّامًا مَعدُودَاتٍ)، فذكر (أيّامًا مَعدُوداتٍ) لتهوينِ أمرِ الصيامِ والترغيبِ فيه، و(اليُسْر) السهولةُ وعدمُ الحرجِ في التكاليف، و(العُسْر) المشقة والشدةُ الزائدةُ في التكاليفِ، فالله يريدُ بعبادهِ اليسرَ رحمةً بهم، ولا يُريدُ بهم العسرَ ليُحرِّجهم (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) لأجل أن تكملوا عددَ أيامِ رمضان بقضاءِ ما فاتَكم، فهو تعليلٌ لقوله: (فَعِدَّةٌ مِن أَيّامٍ أُخرَ) (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ) التكبير هو التعظيمُ والثناءُ على الله تعالى بما هو أهله، ولذلك عُدّي بعلى، تقول: كبرت الله عظمتُهُ وأثنيتُ عليهِ، فيشمل تكبيرَهُ والثناءَ عليهِ قولًا: "الله أكبر"، وتكبيره عملًا بالطاعاتِ، والمعنى: أُمرتم بالقضاء بتكميلِ العدةِ؛ لأجلِ أنْ تكبّروا اللهَ على ما هداكُم، والآيةُ تدلُّ على مشروعيةِ رفعِ الصوتِ بالتكبيرِ بعد انتهاءِ الصوم، ويومَ العيد (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) التيسير الذي أمتن الله به على عباده في التكاليفِ عامةً، وفي الصومِ خاصةً، بالترخيص فيه للمريض والمسافر بالفطر، لأجل أن يشكروهُ على ما امتنَّ به عليهم مِن رفع الحرج عنهم، وللصومِ مزيدُ اختصاصٍ بالتيسير، فقد ذكر قوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) عقبَ الصومِ مقترنًا به.

 

[1]) (شَهْرُ) مبتدأ خبره الموصول بعده، أو الموصول صفة للشهر، والخبر فمن شهد، واقترن بالفاء لشبه الموصول الواقع صفة للمبتدأ بالشرط، حيث إن الصفة والموصوف كالشيء الواحد (رَمَضَانَ) مضاف إلى الشهر ممنوع من الصرف، للعلمية والألف والنون، وهو من إضافة العام إلى الخاص، جوزوه إذا أفاد، كما في: مدينة بغداد، وشجر الأراك، ويمنعونه عند عدم الفائدة كما في: إنسان زيد، ومنهم من يجعل المركب من المضاف والمضاف إليه معا في (شَهْرُ رَمَضَانَ) هو العَلم

والأول أوجه

[2]) لا يتعين ذكر الشهر إلّا مع ربيع الأول والثاني، إذا أريد بهما الشهر، حتى لا يلتبسا بالربيع، الذي هو أحد فصول السنة، ولفظ الأول والثاني المقترن بربيع هو صفة لشهر، لا لربيع.

[3]) البخاري: 1910، مسلم: 760.

[4]) الدخان: 3.

[5]) إبراهيم: 5.

[6]) البقرة: 183-184.

التبويبات الأساسية