في قانونِ الأسبابِ الحلُّ

بسم الله الرحمن الرحيم
في قانونِ الأسبابِ الحلُّ

 

قد يقول قائل: ما الحلُّ للمواجهات المسلحة التي تندلعُ في المدن الليبيةِ، وآخرها ما يجري الآن في طرابلس؟!
أقول الحل - باختصار شديد - يكمن في الأخذ بقانون الأسباب، الذي يقول للمحسن أحسنت فيقويه ويقف معه، وللظالم المسيء أسأت ويأخذ على يديه.
لابدّ أن تكون لدينا الشجاعة على معالجة الأسبابِ، التي أوصلتنا إلى ما نحنُ فيه. 
إن الوقوفَ عند قوله تعالى: (وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم) دونَ علاج الأسبابِ، هو كالوقوف عند قولهِ: (فَوَيلٌ لِلمُصلِّينَ)؛ لأنّ الله تعالى عندما قال وأصلحوا ذات بينكم قالَ قبلها: (فَاتَّقُوا الله) ومِن تقوى اللهِ الأخذُ على يدِ الظالمِ، ومنعُه مِن الظّلم.
وهو أيضًا كإلْهاءِ المريضِ عن مرضِه بالمسكناتِ، حتى يتعذّرَ شِفاؤه. 
والمثال الذي يُقرب لنا هذا المعنى: لو أنّ مريضًا يدخِّنُ جاء إلى طبيبٍ، يشكُو مِن ضيق التنفس بسبب الخبيثِ في الرئة، لو كان هذا الطبيب هو أيضًا يدخنُ، ولم يُحذِّر المريضَ مِن التدخينِ، واكتفَى بإعطائه بعضَ المسكناتِ لتوسيعِ الشُّعَب، فإنه يحسُّ بالراحةِ مؤقتًا، ولكنّ الخبيث يتمكنُ يومًا بعدَ يومٍ، حتى يقضي على المريضِ، ولا تنفعُ معه المسكناتُ، ولو ذهبَ هذا المريضُ إلى طبيبٍ آخر، وواجهَه بالحقيقةِ، وقال له: سببُ ما بكَ هو الدخانُ، فإن لم تقلِعْ عنه فلا علاجَ لك، وستندَمُ، فإنّ الطبيبَ الأولَ عند كلِّ العقلاء يعدُّ غاشًّا، والثاني يُعدّ ناصحًا.
وقانون التوجه للأسباب لتحصيل مصالح الدنيا ودفعِ مفاسدِها، مسلمٌ به عقلًا، ومقررٌ شرعًا، وضَّحهُ القرآنُ وبيّنَه غايةَ البيان. 
الله تبارك وتعالى لو عاقبَ الناسَ جميعًا ولم يبين لهم السببَ، لماذا عاقبهم، لما كان ظالمًا لهم، ولكنّه سبحانه أبَى ذلك، فما ذكرَ مثوبةً في القرآنِ ولا عقوبةً إلّا وقرَنَها بسببِها؛ تتميمًا لعدلِهِ، وتعليمًا لخلقِهِ، قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ)، وقال تعالى: (وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وقال: (وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، وقال تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يسبَّ الرجلُ أباه، قالوا: وكيف يسب الرجل أباه؟! قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه.
والمواجهاتُ التي حصلت في طرابلس، أسبابُها الأزمات المتفاقمة، والظلم، وتضييقُ الخناق على الناس، دون شفقة ولا رحمة، في الجانبين الأمني والمعيشي، الذين بهما قوامُ الحياة.
ففي الجانب الأمني منذُ الترتيبات الأمنية، التي أشرف عليها (باوْلو سِيرا) بعد مشروع الصخيرات، رُهنَ أمن طرابلس لكتائب أمنية محددة، أُعطيت الدعم، وأغدقتْ عليها الأموال، فاغترّت كمَا اغترَّ مَن قبلَها، ولم تحافظ على حرمات الناس، صادرت الحريات، وكمَّمت الأفواه، وأول ما تولتْ أحرقتْ منصة ميدان الشهداءِ، ومنعتِ المظاهراتِ، وأُلقي القبضُ على النشطاء، ولُوحِق رجالُ الإعلامِ داخلَ الميدان، وصودرتْ مُعداتُهم، ومِن ذلك اليوم ذُبحت حريةُ التعبيرِ داخلَ الميدان على رؤوس الأشهاد، وكوّنت هذه الكتائبُ مراكزَ قوةٍ على غِرار اللجانِ الثوريةِ، وأعطتْ لنفسِها صلاحياتٍ مطلقة، تُداهم وتعتقلُ، ولها ضحايا يموتونَ في السجونِ تحتَ التعذيبِ، وضحايا بملاحقةِ خصومِها وتصفيتهِم خارجَ السجونِ. 
أينَ دم الشيخ نادر العمراني، أحد علماء ليبيا، وما ذنبهُ؟
أينَ دمُ عبد اللطيف الكريك، أحد قادة ثوار ليبيا المخلصينَ، وما ذنبه؟
أين دم محمد باكير النحلة، أحد ثوار بنغازي، الذي مات تحت التعذيب، وما ذنبه؟
وغيرهم كثير، من المهجرين مِن بنغازي والدعاة والمشايخ، منهم مَن اعتقل منذُ أمدٍ طويلٍ، ولا يعرف مصيره، ومنهم مَن يلاحقُ وتهددُ أسرتُه، حتى اضطروهم إلى تركِ البلادِ، إلى تركيا وأوربا وبلادٍ شتّى، ومَن بقي في البلدِ كثيرٌ منهم لا يقدرُ أن يدخلَ مدينةَ طرابلسَ.
هذا عِلاوة على الفساد المالي وحصول بعض هذه الكتائب على الأموال عن طريق الاعتمادات المزورة، وما تقوم به من الابتزاز لبعض مؤسسات الدولة وتهديدها بأخذ مبالغ كبيرة من الأموال.
كل ذلك يحدثُ خارجَ القانون بشهادة التقرير المقدم لمجلس الأمن، الذي يدين هذه الانتهاكات، فقد أهم هذا الظلمُ الدول الأجنبية، فأصدر فريقها التقرير الذي تضمن جرائم ومخازي مالية تستحي أمامها اللصوص وقطاع الطرق مما بلغته من فظاعة، وللأسف لم تُعِر السلطاتُ لدينا اهتماما لهذه الفضائح - لا التنفيذية ولا القضائية - فلم تُحرك ساكنًا.
والعجيب أن الكتائب التي تمارس هذا الظلم، تمارسه وهي تعلق شعارات وزارة الداخلية، تحتَ مسميات مختلفة.
المجهولون الذين اقتحموا دار الإفتاء مرتين، وعبثوا بالمكاتب، وضربوا الغفراء عام 2017، أتَوا في سيارات وزارة الداخلية. 
سياراتُ دار الإفتاء التي (مُشطت) في الطريق العام، استولت عليها كتائبُ تابعةٌ لوزارة الداخلية، آخرها قبل شهور قليلة، (مشطتها) جهة تتبع الداخلية (المهام الخاصة باب تاجوراء)، وقُدمت ضدّها شكوَى بالاسم للداخلية وللنائب العام، ولم يلتفتوا إلى شكواها، فإلى الله المشتَكَى.
يا مسؤولون، يا مصلحونَ، يا ناصحون؛ إن كنتم تريدون أنْ تضعوا حدًّا للحروبِ وللقتالِ في ليبيا، فعليكم أن تقفوا صفا واحدا في وجه الظالم أيا كان وتأخذُوا على يديه. 
المقترح الذي نسمعه هذه الأيام، بأن يسلم الأمن في طرابلس إلى الشرطة، كان أملنا من 2011، لكن الذي وجدناه في كل مرةٍ، هو أن الملصقات على السيارات والمقرات تتغير بأسماء أجهزة الشرطة؛ شرطة النجدة، الشرطة القضائية، والأشخاص هم الأشخاص، وهو من الاستهزاء بالناس.
هذا بعضُ ما في الجانب الأمني، وهو قليلٌ مِن كثير.
أمّا الظلم الواقعُ على المواطن في سوءِ المعيشةِ، فحدّثْ ولا حرجَ، وكلّما ضيقُوا على المواطنين في بابٍ مِن أبوابِ المعيشة، فتحوا عليهم بابًا مِن أبوابِ الربا والتحايل في الوصول إلى أموالِهم وأقواتهم، ليجتمع لهم نكدُ العيشِ وشقاء الآخرةِ، والعياذ بالله. 
فعجبي من المسؤولين في المؤسسات التنفيذية والمالية، وفي المجالس المختلفة، أعضاء ورؤساء، سواء في الغرب وفي الشرق، كيف يطيب لهم العيش ويهنأ لهم البالُ، وهم يرون الناس في هذا البلاء، فلا دِينًا أقاموا للناس، ولا أبقَوا لهم دُنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهُمَّ مَنْ وَلي مِنْ أمْرِ أُمتي شَيْئاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فاشْقُقْ عَلَيْهِ).

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
4 محرم 1440 هـ
الموافق 14 سبتمبر 2018م

التبويبات الأساسية