الحلّ رَصُّ الصفُوف!

 بِسْم الله الرحمن الرحيم

 

الوطن تَسَلَّطَ عليه أعداؤُه، ومكتسباته تُسْلب يومًا بعدَ يوم.

وآخر مظاهرِ السلبِ؛ التسليمُ والاستلامُ، الذي تمّ من الجضران لحفتر لموانئِ النفطِ في غضون ساعاتٍ، مع أنّ قوات الجضرانِ في وقتٍ من الأوقاتِ قاتلَتْ قوات الشروقِ أكثرَ مِن شهرٍ، وزَعَموا أنّها هزمتْها!

وطنٌ تتعاونُ على إرجاعِهِ إلى كابوسِ الماضِي غُرفةُ مخابراتِ الصهاينةِ، مع غرفةِ عمليات الإماراتِ، مِن خلال أذنابٍ وعملاءَ لهم، همّهم الدينارُ والدرهمُ، وكُلُّ ما حَرّم الله.

وأهلُه للأسفِ نائمونَ أو مُختلِفون!

وطنٌ عدوّه يملك المال، والعتاد، والإعلام، والسلطان.

أما هو فسلاحُه الوحيدُ الذي - بحول الله وقوته - لا يُهزم، وفرَّطَ فيه، هو رَصُّ الصفوف!

نجحَ ما يُسمّى المجتمع الدولي - مِن خلالِ البعثة الأممية - في تفريقِنا، ثم أَلْقوا في قلوبِنا الرعبَ، فصارَ فريقٌ كبيرٌ من النشطاءِ والسياسيينَ يرددُ: إن المجتمعَ الدوليّ حسم أمره، ولا قِبلَ لنا به، وقد اتخذَ قرارَه أن يكونَ مصيرُ الثورةِ الليبية مصيرَ الجارةِ مصر!

صدّقناهم، واستسلمنَا لأعدائنا بأسرعَ ممّا كانوا يتوقعون، ولمَّا أظهرْنا مِن أنفسِنا هذا الهوانَ صِرْنا عليهم أهونَ!

كانت البعثة الأممية - وهي تُعِد لهذا الوضعِ المأساويّ الذي نمرُّ به - تلتقِي حينها بكلِّ مكوناتِنا، زُرافاتٍ وَوُحدانًا، بدعوى الحوارِ، والبحث عن التوافقِ والحلولِ.

لم يتركوا أحدًا لم يحسبُوا له حسابًا في هذهِ اللقاءات، ثوارًا، سياسيينَ، أحزابًا، تُجارًا، نساءً ... إلى آخره.

مَنْ يَنفَع معه المالُ ... هناكَ من يدفعُ المال!

مَن تنفَع معه الوعودُ بالسلطانِ والنفوذِ ... لديهم الوعودُ بالنفوذ!

من ينفَع معه الترهيبُ من العقوباتِ الدولية ... يلوحونَ له بالعقوباتِ!

من لا ينفعُ معه هذا ولا ذاكَ ... وهم القليلُ، ومنهم وفدُ المؤتمر الوطنيّ العام، الذي بقيَ يمثلُه في الحوارِ، تجاهلوهُ، كما تجاهلُوا مِنْ قَبْله حكمَ المحكمة!

لم تتردَّدْ دارُ الإفتاءِ حين كانتْ هذه اللقاءاتُ على أشدِّها، أن تنصحَ في السرِّ والعلنِ: لا تُلَبُّوا هذه الدعواتِ، إنها من جهاتٍ أجنبية، وإن كانَ ولابدّ فمن خلالِ السلطةِ السياسية في البلدِ وحدَها، ووفقًا للقانونِ.

ها نحنُ الآن نجنِي حصادَ هذه الاجتهاداتِ واللقاءاتِ غير القانونية، التي لا أشكُّ أنه كانَ على رأسِ أهدافِها ما نعانيهِ اليوم مِن فُرقة وتمزّقٍ، ومِن إسقاطٍ للسلطةِ الوحيدةِ التي كانتْ لها الشرعية.

جَرّؤونا على إسقاطِها بكلّ الوسائلِ، حتى صارتِ النخبُ تقولُ:

البلدُ ليس فيها وليُّ أمر، فأَسقَطُوا بأيدِيهم وليَّ أمرهمُ الشرعيّ، ليقعُوا في حفرةِ إفراغِ المكانِ لحفتر وبرلمانِه، الذي لا يعترفُ المجتمعُ الدوليّ بسواه!

ثم مَنُّوا الناس أنّهم: إن أفسحوا الدخولَ لِما أسموهُ حكومة الوفاقِ، فستُفتَحُ عليكم - بقدومِها - بركاتُ السماءِ والأرض، وستُحلّ كل مشاكلِ ليبيا، المالية والاقتصاديةِ والخدميةِ.

والنتيجة؟ ماذا كانت النتيجة؟!! اجتازَ الدولارُ بدخولِها حاجزَ الخمسةِ دينارات، والكهرباء تنقطعُ على العاصمةِ كامل اليوم، وحصولُ الموظفِ على ربع أو نصفِ مرتبه من المصرفِ نقدًا يتطلبُ أن يقفَ ذليلا، يُدفع بالأبوابِ أيام الأسبوعِ الساعات الطوالَ، وصار الشغلُ الشاغلُ للمواطنِ تحصيل قُوْتِه.

هذا ما أوصَلَنا إليهِ ما يسمّى المجتمع الدولي، وحواراتِه، وتوافُقَه المزعومَ!

أتمنّى من كل من يعنيهِ أمر هذا البلدِ أنْ يستفيدَ ممّا تكشّفَ من مكائدِه، ويتخلّى عمّا اجتهد فيه وأخطأَ، ولا يتمادَى، فإن العنادَ يُدخل النار، ومهما بلغت صعوبةُ التخلِّي عن المواقفِ، فإنها أسهلُ من النارِ، وما خفيَ من مكائدِه أعظم.

فوالله ما أرادَ أعداءُ الله يومًا ولا يريدون بِنَا خيرًا، لأنّ هذا كلامُ الربّ العزيزِ الحكيم، لا يأتيهِ الباطلُ من بينِ يديه ولا مِن خلفه: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنـزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}، {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، والله يقول الحق، لا معقب له، فكلامُ غيرِه من السياسيينَ أو غيرِهم ممّن استدرجتْهم الوعودُ والعهودُ ليس بشيءٍ؛ { قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}!

ولا تزال تصريحاتُ الأعداء ووعودُهم تتناقضُ وتتكاذبُ، وهي كثيرةٌ، أضرِبُ عليها مثالينِ:

الأولُ: لقد صرّحوا هذه الأيام أنهم منزعجونَ ممّا يفعلًه حفتر، وكتبَتْ صُحفُهم عنه أنّه وإن كانَ في السابقِ صنيعةَ مخابراتِهم، فإنه خرجَ - حسب قولِهم - عن الطاعةِ، وصارَ مصدرَ قلقٍ، لكن انظرُوا! كونُهُ مصدرَ قلقٍ لا يمنعُ أن تُقاتلَ طائراتُهم معه في بنغازِي الليلَ والنهار، تقصفُ الثوارَ باسم الإرهابِ! وتهدمُ البيوت على رؤوسِ المدنيين، وتمزقُ أجسادَ العالقينَ، الفارِّينَ مِن الحرب، الذين لا حول لهم ولا طول!

الثاني: زعموا - ولا يزالون - أنهم ما أتوا إلى ليبيا إلّا حرصًا على توافقِ الليبيين، لكنّهم عندما التقى الطرفانِ الرئيسانِ في النزاعِ؛ المؤتمر والبرلمان، على مستوى الرئاسةِ في مالطا - وكانتْ فرصةً حقيقيةً للتوافقِ لا تعوّضُ - أصمّ المجتمعُ الدولي أذنيه، وأغمضَ عينيه، وولَّى ظهرَه، وانحبس لسانُه، ولم ينبسْ ببنت شفةٍ، فكانَ أصمّ أبكمَ أعمَى، وانشغلَ عنها بدعوة مَن دبّ وهبّ، ليمثلَ ليبيا في حواراتٍ أخرى مزعومةٍ، كانت تهمّه في شقِّ الصفّ.

والحل؟ ما الحلّ؟

الحلُّ رصُّ الصفوف!

إنه نداءٌ لكل الثوارِ، الذين حملوا أرواحَهم على أكفِّهم، ولبُّوا نداءَ الجهادِ لإزاحةِ ظلمٍ أطفأَ الحقّ، وجثمَ على القلوبِ والعقول، عطَّلَها على مدَى أربعةِ عقود!

ولكلّ شيوخ القبائل الشرفاءِ في الشرقِ والغرب والجنوبِ، أحفادِ المجاهدين، الذينَ قهروا الغزاةَ، ودحروا أساطيلَهم وطائراتِهم وتحالفاتِهم!

ولكلّ الصادقين البرَرَةِ، علماء ودعاة وطلابا، وأربابَ فكرٍ وقلمٍ، الذين كانوا قادرينَ على أن يبلغوا رسالات الله ويخشونه، ولا يخشون أحدا إلا الله، ولا زالوا على ذلك، لم يغيروا ولم يبدلوا!

وإلى كلّ القوى الوطنية المخلصة، سياسية أو اجتماعية أو تعليمية أو مهنية، حريصة أنْ تعيشَ الأجيالُ أحرارًا أعزاءَ، لا عبيدًا أذلاءَ!

وإلى ضباط الجيش والشرطة والتجار وكلّ القوى العاملة، الذين انحازوا إلى الثورة المباركة من أول أيامها، وقدموا لها النفس والنفيس.

وإلى كل حُرٍّ غَيُورٍ حريصٍ على أن يَعيش وطنُه حرًّا، وأهلُه أعِزّاء!

وكل مؤمن بقيمِ العدالةِ، ورفعِ الظلمِ، وكرامةِ الإنسان، وأنّ لهذا اليومِ ما بعده، لهم جميعا أقول:

أنْ رُصّوا الصفوف، وتخلوا عن الظالمين، فإنّ الله يقول: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، فالوطنُ لا يُبنى إلا بسواعدِ الجميعِ؛ والله ناصر الحق، فلا يفوتكم أن تكونوا من أهله، وليذكر كل واحد منا أنه وإن أُعطي العهودَ والوعودَ، ونجا بنفسه، فلن ينجوَ أبناؤُه وأحفادُه.

هذا النداء ناقوسُ خطرٍ، في أذنِ كلِّ غيورٍ حرٍّ شريفٍ!

أنْ رُصُّوا الصفوفَ، ووَحِّدُوا الجهودَ أمامَ مخططات العدوّ، التي بدأت تنطلقُ ترتيباتُه الأمنية مِن امعيتيقة، بتعليماتِ الجنرالِ الإيطالي في طرابلس، ومِن ضباطِ الأمنِ الداخليّ في اجدابيا وبنغازِي، لإذلالِ المواطنِ ومطاردَتِهِ في قُوتِهِ، واعتقالِ كلّ النشطاءِ المنتسبين إلى الثورةِ، وإيداعِهم سجونَ التعذيبِ، والرجوع بالبلد إلى عهد القهر والقمع وسلب الخيرات، وقد رأينا منعَ المتظاهرين، وتكميمَ الأفواه، وخطفَ النشطاء والثوار والإعلاميينَ مِن وسطِ ميادين العاصمة.

فاللهَ اللهَ في الوطن، خذوا حذركم، وحّدُوا الصفوفَ، لا تنكُصُوا على الأعقابِ، لا تُعطُوا الدنيةَ في دينِكم، لا تتهاونُوا فتُمكِّنوا عدوّكم وأذنابَه من الباغين والخوارجِ التكفيريينَ مِن رقابِكم، فإنهم وجهانِ لعملة واحدةٍ، صنيعة استخباراتِهم، وستكشفُ الأيامُ ذلك، وبعد فوات الأوان لا ينفعُ الندمُ، وفي جيرانِنَا عبرةٌ!

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الأحد 16 ذو الحجة 1437 هـ

الموافق 18 سبتمبر 2016 م .

التبويبات الأساسية