بسم الله الرحمن الرحيم
عقوبة الجاني واجب أخلاقي وشرعي وقانوني ولا تتحقق مصالحة ولا حقن دماء إلا مع ردع الجاني وإيقاع العقوبة.
إذا أردت أن تحقن الدماء فأقم القصاص وعاقب المجرم، عندها تحقن الدماء وتحافظ على حياة الناس وتتجسد الرحمة والمصالحة في المجتمع.
فمثلا لو كان عندك مائة مجرم اشتهر بالفتك واللصوصية والإجرام في بنغازي، ومائة آخرون في طرابلس تقتل أو تسلب هذه المائة كل يوم في المدينة حالتين أو ثلاثة فقط، لكانت الحصيلة في السنة الواحدة قتل أو سلب ألفين من الأبرياء، مع الترويع الشديد، والفزع الذي يخلفونه بين الناس، وعندها أيضا يستمر القتل ولا يتوقف، وجماعة الإجرام تتقوى وتتكاثر طمعا في المال أو رغبة في الانتقام، لأنها أمنت العقاب!
فمن يدعو إلى المصالحة وحقن الدماء مع أمثال هؤلاء المجرمين الذي يقتلون ويخطفون، هو في الواقع أبعد ما يكون من المصالحة والرحمة، لأنه يضع الرحمة في غير موضعها، يزعم أنه يرحم المجرم في الوقت الذي يقتل فيه ألف بريء!
من يدعو إلى الرأفة باللصوص وأهل الفتك والسلب لا يدعو في الواقع إلى الرحمة، ولا حفظ الحياة وصيانة النفوس، بل يعين من حيث لا يشعر على إهدار الحياة وضياع الأرواح وإهلاك النفوس، وهذا هو معنى قول الله تبارك وتعالى (ولكم في القصاص حياة) لأن من أمن العقوبة ازداد شره وتكاثر بغيه، فلا تُقبل الرأفة بالجاني ولا الدعوة إلى الرحمة به والمصالحة معه إذا عرف بالشر واشتهر بالإجرام والفتك.
اتفقت على ذلك قوانين أهل الأرض جميعا، التي ارتضوها لأنفسهم حين جعلوا في قوانينهم ما سموه قانون العقوبات، وفي القرآن الكريم (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كُنْتُمْ تؤمنون بالله واليوم والآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) وذلك ليكون للجناة - بالعقاب على رؤوس الأشهاد - عبرة ونكالا لمن يعتبر.
هذا نوع من التشويش والخلط لعل الفرق فيه صار واضحا الآن.
هناك في هذا الباب خلط آخر خطير يُفرض علينا، يجد الواحد فيه نفسه عن حسن نية تحت تأثير العصبية القبلية أو الجهوية متورطا في المشاركة في القتل دون أن يشعر.
فلو تترس المائة مجرم، أو حتى المجرم الواحد، في أي مدينة بقبيلته أو جهته، وتعزز بها وتقوى بوقوفهم معه، وكانوا جماعة واحدة متضامنين متعاونين معه، وصارت له معهم شوكة ومنعة يتناصرون ويتعاونون تحتها، يدعم بعضهم بعضا، ويقوي بعضهم بعضا، ويحمي بعضهم بعضا - لو كانوا كذلك كانوا جميعا قتلة وشركاء له في جنايته وإثمه.
كتب عامل لعمر رضي الله عنه من اليمن: أن جماعة تعاونوا وتمالؤوا على قتل رجل، فكتب إليه عمر قولته المشهورة (لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا) ، أي أن عمر أمر بقتل أهل صنعاء جميعا لو تمالؤوا وتعاونوا على قتل رجل واحد!
فليعتبر من يلتحم مع القتلة والجناة، ويجيش الجيوش لنصرتهم وتقوية شوكتهم!
وهذا الحكم مبدأ حقوقي عظيم، أرساه الفاروق عمر رضي الله عنه منذ ألف وأربعمائة عام، ولم يعرفه الحقوقيون في العصر الحاضر إلا في القرن العشرين!
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
السبت 21 رمضان 1435هـ
الموافق 19 يوليو 2014 م