الخلل في فقه ترتيب الأولويات

 
بسم الله الرحمن الرحيم
قضايا الأمة في الولاء والبراء وقضاياها الجهادية والدعوية وما يتعلق بها من إعفاء ودعوية ونُصرة المسلمين وفضح المنافقين مُثْقَلَةٌ بالأأسقام، ومُثخَنَةٌ بالجراح، بسبب الخلل في فقه وترتيب أولويات في حياة المسلم.
وهذا الخللُ مع أنه نجم عن قيلة تَفَقُّه في الدين وتَبَصُّر، هو مَظْهرُ تَخَلُّف وتَأخُّر في الأمم المتحدة، خللٌ يكتسب مع أيام في حياة الناس ويتزايد، لِتَدني مُستوى حظوظهم من التعليم، وبُعدهم عن حياة تعاليم الدين.
قضاياُ هذا الخللِ كثيرٌ منها مِنَ المُتَشابه الذي يَلْتبس حتى على طَلَبة العلم أخيراً، وأخيراً عَمّن هب ودب من الخائضين، فلا يُنزلون الكلام فيها - من مُحْكَمات الدين وقواطع الشرع – مَنازِلَه، فيحصل التشغيب.
وفيما يلي تذكيرٌ للكارثة ما هو شائع من هذا الخلل:
1- تقديم النوافل والمندوبات على الفرائض والواجبات.
كمَن يَتغيب عن عمله أثناء الدوام في الدوائر ومعاهد العلم، الذي يَأْخُذ عليه أجرا، - ليعود المريض، أو يشهد العزاء، أو ليُجيب الدعوةَ لوليمة العُرس، حتى إنك لا تجد يوم الوليمة من الأسبوع أحدا في مَكْتَب!
ومَن يترك مركبته في الطريق كيفما اتفق لِلَّحاق بالجنازة في المقبرة، أو بصلاة الجماعة في المسجد، ويَحْبِس المارةَ الوقتَ الطويل، وفيهم العَجِل والمحتاج والمريض!
2- تأخير ما هو أعظمُ مِنَ الفرائض عما هو دونه، وتقديمُ ما هو مَوَسّع منها وأقلّ إلحاحا على ما هو مُضيّق وأشدّ إلحاحا.
كمن يصوم ولا يصلي، والصلاةُ أعظم!
ومَن يسأل عن وقوع الطلاق عليه بِسبّ الدين أو وهو سكران، ولا يسأل عن الرِدّة بِسَبّ الدين، ولا عن شُرب الخمر أمّ الخبائث!
ومَن يحج بيت الله الحرام ويَترك جهادَ العدو الذي يغزو أرضَه، والجهادُ بالنفس والمال لِدَفع العدو مُقدّم في الشرع!
ومَن يُنفق الآلاف المُؤَلَّفَة على بناء مسجد إلى جنب آخر، غيرُ محتاج إليه، ودُورُ العلم تُقفَل أبوابُها لانقطاع الأوقاف الأهلية الراعية لها، وعدمِ وجود من يتولاها!
ووقفُ الأملاك على دُور العلم لتخريج العلماء وإعدادهم صاحبُه شريكٌ - في الأجر للعلماء الذين خَرَّجَهُم وأَهَّلَهُم - في كلّ الأعمال العظيمة التي انتفع الناسُ بها ودَعَوْهم إليها، ومنها بناء المساجد عند الحاجة إليها وتعميرها، والقيامُ برسالتها من إعزاز الدين وتعليم المسلمين أركان دينهم، وتحرير بلدانهم من الكفرة وأحلاف الشياطين.
3- التناقض فيما يَصْدُر عن المُكَلّف، فلا يكون موزونا بميزان الشرع، بل بميزان العادة والطبع، أو حتى بالطمع، ولا تكون المصالح والمفاسد المتعلقة بالشأن العام عنده مُقَدَّرةً بتقدير الشرع مِنْ أهل هذا الشأن، بل مُقَدّرة من الخائضين فيها بالمصالح والمكاسب الحياتية، فاختلت بذلك الموازين.
فموظف المصرف مثلا حين يُسلف العميل مِقدار مُرَتّبه المتأخر (على الأحمر) بفائدة، يَحْسِب أنه يُحسن صنعا ويعمل معروفا، ويَغفُل عَنْ أنّ آكِل الربا ومُوكِلَه ملعون مطرود مِن رحمة الله!
وترى مَن يتصدر للإصلاح والدعوة إلى الله، ويَؤُم الناسَ في المساجد، ثم هو يَتَكسّب مِن عمله في الدوائر القانونية، أو في المجالس التشريعية والبرلمانية، المُؤسَّسَة على غير تَقوى، يَحمي بعمله الاستبدادَ والفساد، ويُثَبّت حُكم الطُغاة والقَتَلة والمُجرمين، ويَشُد أركانهم، حالُه في هذا مع عمله الآخَر الصالح كحال مَن يأمرون بالبر ويَنسون أنفسهم، الذين قال الله في توبيخهم: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، ثم هو في هذه الدوائر القانونية، والمجالس البرلمانية المُؤسَّسَة على غير تقوى، يُحَلّل الحرام، ويُحَرّم الحلال، ولا يَلتفت إلى أن تحليل الحرام يَهدِم أعماله الأخرى الصالحةَ كُلَّها!
ومَن يُوالي الكفرةَ وأعوانَهم، ويَتّبِع سبيلَ غير المؤمنين، ثم يَنتسب إلى حزب أو جماعة تتسمى بالإسلام، وموالاةُ الكافرين مِن نواقض الإسلام لا تَجتمع مَع التَسَمّي باسمه!
ومَن يَتهاون في المَظالم والحُرمات، ويُلاحق العلماءَ والأبرياءَ، أو يَعمل سَجّانا أو جَلّادا، أو يُدير مُعتقلات التعذيب، أو صفقات نهب المال العام بالملايين، ثم هو يَتَصَدّق على الفقراء واليتامى، ويُوَزّع الأضاحي في الأعياد، ويُفطر الصائمين، ولا يُعرَف بَين الناس إلا بــ (الحاج) أو بــ (الشيخ)!
ورَفْعُ ظُلم عن مظلوم واحد، وفَكّ أَسْرِه خَيْرٌ من ذلك البِرّ والمَعروف كله، فإنّ مَن لَقِي اللهَ وعباده ذَهب عملُه أدراج، وثوابتُه تحديد مَن انتهَك حُرماتِهم، أو سفك دماءهم ونَهَب تمويلَهم.
ومَن يتمرون كُل عام، أو أكثر من مرة في العام، ويزاحمون على أسواق الشركات الأمريكية والبريطانية والفرنسية المُتَربِّسة بخاصة بهم قُبالة المسجد الحرام ومِن جوانبه، الداعمة للصهاينة - إن لم تكن كُلّها لهم - يُنفِق المُعتمِرون فيها تمويلهم بأريحية وسخاء، والمرابطون في غزة حول القدس المُغتصب من المسلمين يموتون جوعا!!!
ليس بعد هذا من قصّةٍ وغَفْلَةٍ وإن أُلبِسَ لباسَ الطاعة! فاليهود لا يُخففون لأن أطماعهم لن يتوقف عند الحرمين الثالث الحرمين الشريفين.
4- انشغال العلماء بأمور غير مُلِحّة في وقتها، عن قضايا الأمة الكبرى المُلِحّة، إما عَن غَفلة وتفريط، وإما بإسكاتهم من أحكام سوء التواصل ما يُلقونه ببساطة بواسطة فُتات السلاطين، يَنتزعون بهم أَعَزّ ما يَمْلكون، وهو قولُ الحقّ، وثمنُه الجَنّة! مقابل حُطمٍ رَخيصٍ لا يُكَلف الحكام شيئًا.
وانشغل عن العلماء دورهم الذين أخذوا منهم فيه الميثاق، أدعوا إلى ضَعْف المسلمين وتسلُّط أعدوا عملهم أعدهم منهم، وغزو الكَفَرة بُلدانَهم، ومصادرةِ أصدقِهم، واستلابِ أموالهم، حتى صار حُكّامُهم - بسكوت العلماء عنهم - يأخذُ منهم الكَفَرةُ الذين يُبيدون إخوانهم في فلسطين الجِيزية عَنْوَة عَنْ يَدٍ وهُم. صاغرون!
هذا ونحوه من خللِ فقه الأولويات إن لم يُتدارك هو فادح الضرر، تَكْلُفَتُه باهضة على الأمة، وتبعاتُه جسيمة وإن استسهله الناسُ الآخرين أصغروه، وتعلمفِهم عليه، وتعودهم.
الصادق بن الصادق عبد الرحمن الجرياني
7 محرم 1447 هـ
وافق 2 - 07 - 2025
 
 
 
 

التبويبات الأساسية