بِسْم الله الرحمن الرحيم
أبارك لكم عيد الفطر المبارك، هذا اليوم هو يوم الجائزة، حيث تقف الملائكة على أفواه الطرقات، تبشر الصائمين بالمغفرة والرحمات.
هذا يوم الفرحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ).
الجائزة لمن صام إيمانا واحتسابًا، ولمَن قام إيمانا واحتسابًا.
الجائزةُ لمن قال خيرًا وفعلَ خيرًا، ووصلَ رحِمه، وبرَّ وصَدَق، وراقبَ نفسه في السرِّ والعلن، وحفظَ لسانَه.
الجائزةُ للمرابطين في الجبهات، في قتالِ الظالمين البُغاة، حفتر في بنغازي، والخوارج في سرت، ومَن يناصرونهم من جماعة القذافي: قال تعالى: (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
الجائزةُ لمن بذلوا أرواحهم الزكية دفاعًا عن الحقّ وأهلِه، لمن جُرحوا وفَقدوا أطرافَهم، وصبروا واحتسبُوا؛ (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قُرْح فَقَدْ مَسَّ الْقَوْم قُرْح مِثْله)، (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ).
الجائزةُ لمن يدعمُ الجبهات بالمال والإمداد، وللنساء اللاتي تعدُّ لهم الطعام، وللحملاتِ الخيرية التي ترعاهُم، وترعَى أسَرَهم، في ظلّ غيابٍ شبه كاملٍ من السلطاتِ الرسمية، وللأطقُم الطبيةِ التي تقوم على الرعاية الصحية للجرحَى، في المستشفيات الميدانية، وفي المستشفيات العامةِ داخلَ المدن، فإنّ مَن أعانَ غازيًا فقد غزَا.
الجائزة لمَن فقدوا الأحبةَ، مِن الآباءِ والأمهاتِ، إذا صبروا واحتسبُوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا).
ليس على مَن أُصيبَ في سبيل الله وصَبَرَ همٌّ ولا حزنٌ.
لقي النبي صلى الله عليه وسلم جابرَ بنَ عبد الله رضي الله عنهما مهمومًا، وقد قُتل أبوهُ في أُحُد، فقال له: (أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟ قَالَ جابِر: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي؛ تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ).
ليست الجائزة لمن صام عن الطعام ولم يَصُم عن الإثم والعدوان، بأنْ قطع الطريق، أو شهد الزُّور، ووقَعَ في أعراض الناس، ولفَّقَ لهم التهم، وأشاعَ عنهم على الصفحات وفي الفضائيات الأكاذيب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُوْرِ والعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للّه حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ)، والله تبارك وتعالى يقول فيهم: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا).
ليست الجائزة للمخذِّلين والمثبّطين والمنافقين، ومَن يوَهّنون العزائم، ويقسمونَ الصفوفَ، ولا يحبونَ لمعركةٍ مع الباطلِ أن تكتملَ وتُحسَمَ، هؤلاء وإن كانوا مع الثوارِ في الجبهات، فإنّ الله تعالى قال في أمثالِهم من قبل: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ).
ليست الجائزة لأصحاب الفتاوى التي تُصنع في دوائر المخابرات، وتمرَّرُ لبعض شيوخِ الوقتِ، ممّن يشترون بعهدِ الله وأيمَانِهِ ثمنًا قليلا، ويكتمونَ الحقَّ بعد ما جاءتهم البيّنات، فهؤلاء الذين قال الله فيهم وفي أمثالِهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
لا يخفى الآن على أحد أنّ البلدَ يحيطُ بها عدوّ مِن الداخلِ وعدوٌّ مِن الخارجِ.
عدوّ من الداخل يعمل على إعادةِ انتاج نظامِ القذافي، القائم على التصفياتِ والقتلِ والخطف، والسجون والمعتقلات والتعذيب، تصفيات خليفَةِ القذافي حفتر ومَن ينضمُّون إليه، شهد بها شاهدٌ مِن أهلها، وذلكَ في اعترافاتِ مَن انشقّوا عنه، مثل حجازي، وفرج اقعيم، المسؤول على مكافحة ما يسميه الإرهاب، قال اقعيم إن لديه الأدلةَ والوثائق، على أنّ الذي كان يقوم بالاختطاف والقتلِ في بنغازي، ووضع الجُثت في براميل القمامة، هم مَن يسمى الجيش، وقال إن لديه الأدلة، ولا يريدُ أنْ يتكلم الآن خوف الفتنة، حسبَ قوله.
أمّا آخر ما تسربَ عن مخازِي التعذيب والقهرِ والإذلال النفسيّ في سجن قرنادة، فإنه يستحي منه الشيطان، لو كان الشيطان يستحي.
إذلالُ الرجال بلغَ حدًّا لا يُطاق، اغتصابٌ للسجناء داخلَ السجن.
هل هذه هي الكرامة التي وعدكم بها حفتر، أن يغتصب أبناءكم داخلَ السجون، ويعمل بهم عمل قوم لوط، الذين خسفَ الله بهم الأرض، ألَا تخشون انتقامَ الجبار؟ ألا تخافون الزلازلَ والدمارَ لمدينتكم؟!
هل تَرضى قبائل برقة الشريفة المجاهدة بهذا العار؟!
هذه لم تعدْ سجونا، هذه صارتْ أوكارًا للسوء والرذيلة، ومنكرًا يجبُ على الناس أن يغيروه، اللهم إنَّا نبرأُ إليك مما فعل هؤلاء الفجرة.
ثم عدوٌّ خارجي يدعم البغاة، لم يعد دعمُه مكتفيًا بالمال والسلاح والتجسسِ، بل صارت الطائرات بدونِ طيار والبوارج البحرية تقصف مواقعَ الثوار، وعناصره الفنية تشاركُ في الميدانِ.
العدوُّ الخارجي له أطماعٌ في بلادكم، وأطماعه ليست بأن تحتلّ جيوشُه الأرض، فذلك عهدٌ غبر، وإنمَا أطماعه أطماع نفوذٍ وسيطرة وإملاءاتٍ، بحيث هو الذي يعين عليكم مَن يحكُمُكم، ينصِّب عليكم حفتر، وهو يعلم ما يفعلُه مِن جرائم ضدَّ المدنيين، ومِن جرائم حربٍ ببراميلِه المتفجرة، ولكن هذه الجرائم لا يقوم بها حفتر على أرضِ الغرب، وإنّما تدمر بها مدنٌ وأراضٍ ليبية، ولذلك هو يغضُّ النظر، ولا تزعجه كثيرا.
نفوذه في أن يختار لنا الحكومة التي تسمع وتطيع، تأتمر بأمره وتنتهي ينهيه، فلا تقيم لنا دينًا، ولا ترفعُ بالدنيا رأسًا.
ما حصدناه مِن مسوداتِ الصخيرات التي شغلونا بها زمانًا حصادٌ مرّ، لم يزدِ المواطنَ إلا نكدًا وبؤسًا وفقرًا في معاشِهِ وقُوتِه، ولم يَبق له مِن الخدمات شيءٌ يُذكر.
هذا ما نراه الآن رأيَ العينِ لا ما نسمعُه، ولذلك أذكِّرُ مَن جرَى خلفَ السرابِ، وظنَّ في المسودات طوْقَ النجاةِ بقولِ الله تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنـزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
ولهذا كلّه ولغيرهِ؛ فإنّه ليس بعدَ الاعتمادِ على الله والتوكل عليه، لإنقاذ ما بقيَ، إلّا وحدة الصفِّ وجمع الكلمة، وإنّي أوجهُ نداءً لقادة الثوارِ، الذين لا زالوا على العهدِ، في أنحاءِ ليبيا مِن أقصاهَا إلى أقصاها، عليهم أن يوحِّدوا صفوفَهم، ويتسامحُوا، وأن يتعاونُوا حتى مع مَن أخطأَ منهم، مادامَ لا يزالُ معهم على الهدف، وأن يجتمعوا على مشروعٍ واحدٍ، حتى ينقذوا بلادَهم مِن خطرٍ داهمٍ.
وهذا النداء موجه أيضًا للنخبِ والسياسيين، ونشطاء المجتمع المدنيّ، أنْ يوحِّدوا جهودَهم، وأن يدورَ مَن اجتهد منهم وأخطأَ مع الحق حيثُما دار، ولا تأخذه العزةُ بالإثمِ، فإن الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادِي على الباطل.
فالغيرةَ الغيرةَ على وطنكم، والبدارَ البدارَ لتوحيد صفوفكم، قبل فوات الأوان، فإنّ العدوّ القادم لن يتساهلَ حتى مع مَن تعاون معه واسترضاهُ ووافقَه، فقد جربْنا هذا مع القذافي الذي يُعيدونَ نظامَه، مَن لم يكن معه في مقولاتِه وعدائِه للدين، فهو ضدّه، يلاحقُه؛ إن فرّ وترك له البلد، فهو من (الكلابِ الضّالّة)، وإن بقيَ في الداخل أودعَه السجون، أعدَمَ منهم في يومٍ واحد في (بو سليم) أكثرَ من ألفٍ ومائتين، قُتلوا ظُلما، لم يجدِ القضاءُ سبيلا إلى إنصافِهم حتى الآن، فلا تتوقّعوا إذا عادَ نظام القذافي أنْ يرحمَ حتى مَن تعاونَ معه.
القذافي لم يُهادن خصومه، تخلّص من الجميع، بعد أن تخلصَ مِن كلّ القطاعات، رجعَ على رفاقِه وشركائِه في الانقلاب، وتخلصَ منهم جميعًا.
والعاقل مَن استفادَ مِن الدروسِ:
مَـن لَـم تُفِـدهُ عِبَـراً أَيّـامُـهُ كانَ العَمى أَولى بِهِ مِـن الهُـدى
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
الإثنين 29 رمضان 1437 هـ
الموافق 4- يوليو 2016 م