كيف يتحول الإحسان والحُظوة إلى مصانعة ورشوة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يقول الله تبارك وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ)

هذه الآية، الشديدة الوعيد، نزلت في أحبار أهل الكتاب من اليهود والنصارى وعلمائهم، وفي حكمِهم مَن يفعلُ فعلهم مِن علماء هذه الأمة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إنّ كل ما ذَمّ اللهُ عليه أهلَ الكتابِ فالمسلمونَ محذَّرونَ مِن مثلِه)، ويشهدُ على دخول مَن فَعل فِعلهم من هذه الأمة معهم، استدلالُ أبي هريرة رضي الله عنه بها، عندما قالوا له: أَكثَرَ أبو هريرة - أي مِن الرواية - فقال: لولا آيةٌ في كتابِ الله ما حدثتُكم حديثًا، وقرأَ هذه الآية: (إنّ الذين يكتُمونَ ما أنزل الله من الكتاب ...).

والكِتمان المتوعد عليه آنفا، له وجوه كثيرة، تدخل فيها فئات من الناس عديدة، منها فئة تتعبّد اللهَ تعالى بالغفلة عنِ النصحِ لولاةِ الأمرِ، وتجعل همَّها ومبلغَ علمِها الدندنةَ الدؤوب حولَ طاعةِ وليِّ الأمرِ، على كلِّ أحوالِه في المعصية والطاعة، وتغفَل عنْ أنّ النصحَ لولاةِ الأمرِ مِنَ الدين، الذي افترضَه اللهُ على العالِـمين، ويدخلُ فيها مَن يسكتُونَ على الباطلِ مصانعة لعرض من الدنيا، ويدخل فيها مَن يُفتونَ الحكامَ بما يُزيّنُ لهم أعْمالَهم، ومَن يُفتونَ عامة الناس بما يُلائِم هَواهُم، ومَن يقضونَ بينهم بما يُخالفُ الحقَّ، ويأخذونَ على ذلك ثمنًا قليلًا؛ رشوةً وسُحتًا، يأكلُونَها نارًا في بطونِهم تملؤها، كمَا قال تعالى: (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).

وكانَ ما يُؤخذُ على مَا ذُكرَ رشوةً؛ لأنّه ثمنُ ظلمٍ يُدفعُ عوضًا عن حَيفِ السلطانِ، وجَورِ القاضي، وتحريفِ المفتي، وكِتمان العالمِ.

رشاوى السلاطين للعلماءِ في أيامِنا اتخذَتْ وسائلَ عديدة، تطورَت كتطوُّرِ الحياةِ، أساليبُها متعددةٌ، ظاهرُها قد يكون أحيانًا الحفاوةُ بهم، كتقريبِ العلماءِ وتقديرهم فيما يُعطى لهم مِن أرزاقٍ، ومزايا ومرتبات مُبالغٍ فيها مبالغةً كبيرةً، تجعلُ العالمَ أسيرَ النعمة المطوق بها، والوظيفة التي لا يقدرُ معها على أن يُخالفَ وليَّ نعمتِه.

وقد تكون مصانعة لهم من خلال ضيافات في مؤتمراتٍ ولقاءاتٍ عقيمةٍ، مصير قراراتها الحفظ والصون في الأدراج! ولا تخدمُ سوى سياسةِ الدولة المنحرفة من وسائل الإعلام، ويتم في هذه المؤتمرات التفضل على العلماء بالجوائزِ والهدايا المُرغِّبة؛ يشعرونهم فيها بالمنة، ليحافظوا منهم على المواقف، لقاء المحافظة على دعوة لمشاركات قادمة، فتؤول حقيقة هذه الحفاوةِ إلى مصانعة لتبادل المنافع، وتدجين العلماءِ وتطويعهم؛ إمَّا بالمشاركةِ الفعليةِ في تزيينِ السوءِ، بالخطبِ والمقالات والفتاوَى والكلمات، التي تُبارك للحكام أعمالَهم، ولا تصفُ سياساتِهم - مهمَا بلغت مِن الفسادِ - إلّا بالرشيدة والحكيمة، وبغايةِ التوفيقِ الذي ليس بعده توفيق!

وإمَّا بشراءِ مواقفِهم بالسكوتِ على انحرافِهم وظلمِهم، وانحرافِ حاشيتِهم، وبالسكوت على تحالفَاتِهم مع أعداءِ الأمة، على ألَّا تملِكَ أمرَها ولا قرارَها، ولا يُمكّنَ لَها، وعلى نهبِ أموالِها وثرواتِها، وإجهاضِ كلّ عملٍ مثمرٍ بنّاء له مستقبلٌ في حياتِها، بل بعض من ينتسبون إلى العلم - وبكل أسف - يؤلِّبونَ الأعداء والخصوم ويؤلبون الحكامَ على البطش بالعلماء المناصرين للحق، وعلى إسكاتِ كلِّ صوتٍ معارض مِن إخوانِهم، ومصادرةِ حرياتهِم، وإيداعِهم غياهِبَ السجون، حسدا من عند أنفسهم!

فعلَى مَن يعلَمون، ويوَقِّعون عن ربِّ العالمين أحكامَه، أن ينتَبِهوا، فإنّ ظهورَ الرشوة - الظاهرة والمبطنة - بينَ العلماءِ والقضاةِ والمفتين، وهم القُدوةُ؛ طلبًا للمالِ أو للحُظوةِ والمنزلةِ عندَ السلطان، عنوانُ اضْمِحلالِ الأمةِ، وذهاب حُرمةِ العلماءِ وهيبةِ الدّينِ، وعاقبتُه مِلءُ البطونِ مِن النار.

وما ينطبق على هذه الفئات من المنتسبين للعلم ينطبق على كل صاحب نفوذ ومنصب في الدولة، يقدم خدمة لصاحب نفوذ في منصب آخر، لقاء نفع خاص به، يعود عليه في خاصة نفسه، بمال أو منصب، أو بعضوية متبادلة بين المؤسسات والهيئات، الاستشارية والقانونية والمالية، التي صارت ميدانا هي الأخرى للتنافس، تصل عدد العضويات فيها للشخص الواحد إلى العشرة، بل العشرات، مع المبالغة الكبيرة في المكافآت عليها، ولا تعطى هذه العضويات أحيانا، ليقدم أصحابها خدمة فعلية للمؤسسة في التخصص، وإنما لظهور الاسم في التقرير النهائي للمؤسسة، لتسويق نشاطها عند المنافسة مع غيرها، وإذا كانت المؤسسة إسلامية، غير منضبطة في بعض معاملاتها بالأحكام الشرعية، ازداد الأمر سوءا لمن قبل هذه العضوية، ووضع اسمه لأجل المال، فهذا ونحوه ليس إلا بابا من أبواب المصانعة التي تدخل في حقيقة الرشوة، والله أعلم.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

28 محرم 1436 هـ

الموافق 21 نوفمبر 2014

 

التبويبات الأساسية