احذر سب الدين عند الغضب فإنه كُفرٌ يُحبط العمل

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد،

فقد سمعت ممن أثق به أن أحد الناس عاقب صغيرا يلعب أمام بيته سمعه يسب الدين ، فشكا الصغير إلى أبيه ، فخرج الأب مغضبا منتصرا للصغير ، قائلا: ما شأنكم به ، وإن سب الدين ، أنا نفسي أسب الدين!!

إذا كان رب البيت بالدُّف ضاربا       فلا تلومن الصبي على الرقص 

من الناس ـ صغار وكبار ـ من يجري على لسانه هذا القول الفاحش ؛ سبُّ الدين وسب لفظ الجلالة وذات الله، تعالى الله وتبارك عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، يجري على ألسنة بعضهم عند الغضب، أو الخصومة، أو اللعب، أو العناد والمكابرة ـ يرسلونه ولا يلقون له بالا، يحسبونه هَيِّنا ، وهو شرك بالله عظيم ، لو خَرَّ قائله من السماء فتَخَطَّفه الطير، أو تهوي به الريح في مكان سحيق، لكان أهون عليه وقد كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ مضى ـ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم  فيما صح عنه ـ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ...)، فأين هذا الذي يجري سب الله تعالى على لسانه، وسب دين الإسلام، ولا يحسب له حسابا ـ من ذاك الذي يُمشط لحمه ويمزق عن عظمه بأمشاط الحديد، ويُشق بدنه نصفين، ولا يقدر أن يلفظ بكلمة كفر.

أين الذي يقبل هذا العذاب في ذات الله، تنزيها له عن الشريك والولد وتقديسا، وثباتا على الحق، واستمساكا بالدين ـ مِنَ الذي يتجرأ على الله بالسب، في خصومة على الدنيا، أو غضب من الشيطان .

يقول ذلك فاجرا مستهترا، عدوانا تعديا ، دون سبب، سوى أن الله تعالى أنعم عليه بنعم جليلة عظيمة ، غامرة سابغة ، لا تُحصى ولا تعد ، يتقلب فيها ذات اليمين وذات الشمال، فقابل ذلك الإحسان العظيم كله بتلك الإساءة البالغة الفاحشة.

ألا يستحق من كان كذلك من العقوبة أقصاها، كما جاءت بذلك السنة في عقوبة المرتد بالقتل، أَوَ لا يكون جديرا بذلك الهوان الذي أخبر الله تعالى به في قوله تعالى:(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ).

عجبا ممن يصدر منه هذا القول الرديء البذيء، يسب الإله، وهو في نعم من الله وافرة، وخيرات منه سابغة، معافى، في شباب وقوة، وزينة ومال، ونفوذ وسلطان، وشِبع وأمن، وأثاث وري، وحسن أحوال وتقلب في البلاد.

هلاّ حذِر أو خاف انتقام الجبار، وغضب الحليم الرحمن ، أن يُنزل به بعض ما يستحق(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون(45)أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ(46)أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)، ماذا لو أخذ الله تعالى روح هذا البئيس وهو على تلك الحال، أم أن مَن الأرض في قبضته، والسموات مطويات بيمينه يعجزه أن يفعل به ذلك وغيرَه متى شاء ، ألم يسمع هذا التحذير؟:(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ).

يا هذا، الموت يأتي بغتة ولا يستأذن، وإذا حل الأجل بالمرء وهو على حال سوْء كهذا الحال قامت قيامته وكان مصيره النار، وبئس القرار، وليس بعد ذلك من فرصة نجاة، ولا انتظار فرج، بل عذاب مقيم، لا يزول ولا يحول، لا يفتر ولا ينفك ، كما أخبر تعالى عن أهل الكفر:( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ( 74 ) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ( 75 ) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ( 76 ) وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)

وقال تعالى:(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ)، وقال تعالى:(مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً) .

يقول ابن عباس ": يطلبون الموت، بأن يقبض الله أرواحهم ليستريحوا، فيجيبهم الملَك بعد ألف سنة من الانتظار في العذاب:(إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ).

فحذار أخي المسلم من قولٍ أو فعلٍ هذه عاقبته، وذاك هو مصيره، واحسب لفلتات لسانك ألف حساب ( وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ).

كيف يرتد المسلم ويكون كافرا؟

الردة أفحش الكفر وأغلظه، لأنها نكوص بعد هداية، وجحود بعد عرفان، وهي تُحبط العمل، وتهدم جميع الطاعات، قال الله تعالى:(وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ).

واعلم ـ يا رعاك الله ـ أن المسلم يسلب إيمانه، ويُعدّ مرتدا في عِداد الكافرين ، مع إقراره بالشهادتين ، إذا صدر منه فعل أو قول يناقض مضمون الشهادتين، أو يدل على عدم رضاه بالإسلام، فالناطق بالشهادتين لا يكون مؤمنا إلا إذا لم يصدر عنه ما يعارضهما.

والكفر يكون بواحد من ثلاثة أشياء، لفظ صريح في الكفر، كالسب والشتم للدين، أو لله عز وجل، أو لفظٌ غير صريح لكنه يقتضي الكفر، كإنكار ركن من أركان الإسلام، مثل الصلاة والزكاة والحج، بأن يقول إنها غير واجبة، أو بفعل يقتضي الكفر كالاستهانة بالقرآن أو بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بأي شيء يرمز للشريعة، بإلقائه في القاذورات أو رؤيته فيها ويتركه ولا يبالي.

 فإذا حصل واحد من هذه الثلاثة من المسلم، سواء كان على وجه الاعتقاد والجزم، أو العناد والمكابرة، أو الاستهزاء والسخرية، فهو كافر، قال تعالى:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، وقال تعالى:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)، أي عنادا ومكابرة .

ويحصل الكفر كذلك بالنية، إذا عزم عليه القلب واعتقده، ولو لم ينطق به اللسان، أو نطق اللسان بخلافه، وكفر المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان من هذا النوع ، نطق للإسلام باللسان، وتكذيب بالقلب، قال الله تعالى: ﭽ ﮔ  ﮕ   ﮖ  ﮗ  ﮘ  ﮙ  ﮚ  ﮛ  ﮜ  ﮝ   ﮞ  ﮟ  ﮠ  ﮡ  ﮢ  ﮣ ﭼ  وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ...)، ويُسمى مبطن الكفر ومُظهر الإسلام زنديقا .

ومما يسلب الإيمان ويوجب الكفر والخلود في النار كذلك، وصف الله تعالى بما لا يليق بكماله، كمن يصفه تعالى بالظلم أو الاستبداد، أو بمشابهة الناس في علمه أو قدرته، أو يصفه بالعجز وعدم القدرة على النصرة، تصريحا أو ضمنا، كمن يقول لخصمه: ( خلّ ربك ينفعك، أو يمنعك مني )، أو: ( لو كان ربك هنا لأصابه ما أصابك )، أو يسب لفظ الجلالة، تعالى الله عن ذلك.

حكم الصبي والسكران في أمور الردة:

 الردة بشيء مما ذكر، كما تقع من البالغ ، تقع من الصبي العاقل قبل البلوغ، إذا كان يميز الثواب من العقاب، والقربة من المعصية، وذلك لصحة إسلامه، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ( كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ )، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ( منْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا الله دَخَلَ الجَنَّةَ )، وهو عام في البالغ، وغير البالغ، ولذا قيل إن أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي رضي الله عنهما، وتترتب على ردة الصبي أحكام الدنيا، لا يورث إذا مات، ولا يُغَسَّل، ويقام عليه الحد بعد بلوغه، إن لم يتب.

والسكران أيضا تلزمه الردة، فإن مات حال سكره مات كافرا، ويُستتاب بعد إفاقته، فإن تاب وإلا قتل، فقد أقام الصحابة على السكران حد القذف، وقالوا: ( إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى )، فحدّوه حد الفرية، فهذا يدل على أن السكران مؤاخذ بما يقول، ولأن السكران مُكَلَّف، فإن الصلاة واجبة عليه، وكذلك سائر أركان الإسلام، ويأثم بفعل المحرمات، ويُعاقب عليها، ويلزمه الطلاق وكل ذلك من أمارات التكليف، ولأن الحدود واجبة عليه.

ما يترتب على الردة من إبطال الأعمال :

ومن وقع منه شيء من الأمور المتقدمة، التي تسلب الإيمان وتوجب الكفر، فإنه يُفرق بينه وبين زوجه بطلقة بائنة، ولا ترجع إليه إن عاد إلى الإسلام إلا بعقد جديد، وكذلك إذا ارتدت هي فإنه يفرق بينهما، ويطلب القاضي من المرتد التوبة، فإن لم يتب أقام عليه حد الردة، وهو القتل، لما جاء في الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا الله وَأَنِّي رَسُولُ الله إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ؛ الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ )، وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ).

ومن آثار الردة أن المرتد يُدفن في مقابر الكفار، وكما أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، ويمحو جميع الذنوب، لقول الله تعالى:(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، فإن الرِّدة تبطل جميع الأعمال الواقعة قبلها، من حين حصولها، فلا يُعتد بها شرعا، قال تعالى:( لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلك)، وقال تعالى:( وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فتُبطل الردة الحج، فمن حج وارتد، وجبت عليه حجة الإسلام، لبطلان الحج الأول بالرد، وتَبطل أعمال المرتد السابقة، قبل الردة، من صلاة، وزكاة، ونذر وكفارات، ووصية، ولا ثواب له فيما عمل من الطاعات قبل الردة.

من العلاج .. دعوى الحسبة، والعناية بالأُسْرة :

الحفاظ على الدين، وتنزيه الله تعالى عن النقائص حق من حقوق الله تعالى، يجب على كل مسلم صيانته والذود عنه، ولا يَسمح لغيره أن ينال منه أو يسيء إليه، ما دام قادرا على ذلك، فإذا اعتدى أحد على الدين بسبه، أو على مقدسات الأمة وشعائرها، فالواجب على من علم ذلك أن يقاضيه، وأن يقوم برفع دعوى عليه في القضاء لينال جزاءه، احتسابا لله تعالى ابتغاء ثوابه، وانتصارا لدينه، يفعل ذلك ولو لم يكن مُكلَّفا من قبل السلطة (النيابة العامة) برفع دعوى الاحتساب، لأنه من دفع الضرر عن المسلمين، والنصح لهم، إذ هو الوسيلة لدفع المفاسد، حتى لا يأخذ الله البريء والمذنب بعذاب من عنده، قال تعالى:(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

ولأنه من التعاون على البر والتقوى قال تعالى:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

أما ولي أمر الأسرة فهو مسئول عن أسرته وأولاده في هذا الأمر مسؤولية مباشرة، بحسن التربية والتوجيه والتعليم والتعويد على احترام المقدسات، وتعظيم هيبتها في النفوس، حتى لا يجد نفسه يوما من الأيام يسمع منهم مثل هذا القول القبيح، ففي حديث عبد الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَن رعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَن رعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَن رعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَن رعِيَّتِهَا، ... وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَن رعِيَّتِهِ )، ومن سمع من أولاده عند لعبهم أو خصامهم شيئا من ذلك فليعاقبه عقوبة موجعة لا ينساها حتى يجنبه شرا عظيما، قد يتعود عليه في قابل حياته إن لم يقتلع مُبكرا قبل أن يتمكن منه.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

27 / ربيع الأول / 1429 هـ

الموافق 3 / 4 / 2008

 

التبويبات الأساسية