" حوار حول تحكيم الشريعة الإسلامية"

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.

أما بعد :

فهذا حوار مع من التبس عليه الأمر في وجوب تحكيم شرع الله سبحانه وتعالى.

يقول المحاور: أنتم تطلبون وجوب تحكيم الشريعة، وأنْ يُنص في الدستور على أنَّ كل مايخالفها يعد باطلاً، أليس هذا من استغلال الدين في السياسة وإقصاء الآخر؟.

الجواب: ليس هناك شيء اسمه استغلال الدين في السياسة، الخلاف يبدأ من هنا، لماذا هذا العداء للدين، ومنعه من الدخول في السياسة ؟ 

أليس هذا أيضا إقصاء لفكر الآخر ومسلماته؟ 

لِم لَم يوجّه هذا أيضا للاتجاهات غير الإسلامية؛ ماركسية، أو ليبرالية أو غيرها إذا تكلّمت في السياسة،لم لا يقال لها: هذا من استغلال الماركسية في السياسة مثلاً؟ .

أم هو حلال على أهل المذاهب الفكرية الأخرى حرام على أهل الفكر الإسلامي؟ 

فالتوجه الإسلامي بالإضافة إلى كونه عبادة، هو فكر، له مبادئ وأسس ونظريات، فيها حلول لكل قضايا الناس؛ سياسية، واقتصادية، وإدارية، ومالية، له رؤية، وله تصور، آيات القرآن ليست كلها أمر بالصلاة والزكاة، فيها تفصيل لشؤون الحياة كلها، فيها أحكام الأسرة وقسمة المواريث، والتبني، وعدة النساء، وحضانة الأولاد. 

في آيات القرآن أحكام العلاقات الدولية، وقوانين السلم والحرب )وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( سورة الانفال 62 (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ( سورة الأنفال 58( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ). 

في آيات القرآن أسس للحكم، وضبط لعلاقة الحاكم بالمحكوم، قال سبحانه وتعالى: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)؛ في آيات القرآن قانون المعاملات المالية قال جل جلاله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ)؛ في آيات القرآن أُسُسُ قانون العقوبات قال عز وجل: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ(. في آيات القرآن الآداب، والأخلاق، والتربية، والرحمة، والإحسان: ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ( (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)

ولو تتبعنا تفصيلات ذلك في الكتاب والسنة لما وسع المقام.

فهل هذا كله لا يكفي أن نعترف بأن للإسلام ومن ينادون به فكرا ونظريات من حقها أن تظهر، ويُتكلم بها؟ في السياسة وفي الاقتصاد، وفي كل شؤون الحياة، كما أن أصحاب النظريات الأخرى جعلوا لأنفسهم هذا الحق؟ 


فإن قلتم نحن لا نمنعكم، وإنما أنتم الذين تمنعون، وتحرّمون الدعوة إلى تطبيق مايخالف الإسلام، نقول لكم الأمر لم يختلف، والسؤال نفسه موجّه إليكم، فأنتم أيضًا تنادون بإقصاء الدين من الحياة، وتحرمون أن يتكلم من يريدون تحكيم الإسلام في السياسة، فكما حرمتم ومنعتم الدين من التدخل في السياسة، انطلاقا من مبادئكم التي تفصل الدين عن الدولة، حرم غيركم عليكم، انطلاقا من مبادئه، فالإنصاف أن يكون القرار في الفصل بينكم وبينهم للحجة والبرهان، وحينها ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) .

يقول المحاور: ما تشترطونه من الشروط في المرشح من الأمانة والخبرة كل الوطنيين ينادون به، وكون الشخص بعد ذلك يصلي أو لا يصلي هذه مسألة شخصية لا أثر لها في عطاء الشخص وخدمة لوطنه مادام أمينا وصاحب خبرة، فتكون الدعوة إلى عدم انتخابهم إقصاء للآخر لا مبرر له!!

الجواب: لاشك أن رؤية الفريقين للأمور تختلف اختلافًا جذريًا، ولو أنهما اتفقا في الدعوة إلى أن يكون الاختيار في الانتخابات على أساس الأمانة والخبرة؛ فمن يرى أن الدين لا علاقة له بالسياسة ولا نظم الحكم، لايتردد في قبول أي قانون يبيح المعاصي بأنواعها؛ الزنا و الشذوذ و الأبناء غير الشرعيين؛ لأن إباحتها تدخل ضمن الحريات العامة التي كفلها الدستــور حسب تصورهم للحرية.

المحاور: لكن الدستور يصدر باختيار الأغلبية، والأغلبية لا تقر هذه المسائل الشاذة التي تذكرونها دائما، ويتم الاستشهاد بها، حتى قوانين العالم الغربي لا يوجد فيها هذا الشذوذ، فحكم الأغلبية بريء من هذا الذي تريدون أن تلصقوه به.

الجواب: القوانين والدساتير لا تمنع، لا في العالم الغربي ولا حتى في العالم العربي هذه الجرائم الأخلاقية، فالزنى لا يعد جريمة في القانون في حد ذاته، ولا يصنف في الجرائم التي تستوجب العقوبة إلا إذا وقع على فراش الزوجية، فلو زنت المرأة في الخيمة على شاطئ البحر، أو في السيارة،أو حتى في الطريق، فلا يعد القانون هذا أمرًا مستقبحا منها يستوجب العقوبة، وبعض البلاد معلوم أن قوانينها ترخص للدّعارة وهي من البلاد الديموقراطية في الغرب، فلابد أن يكون ذلك الترخيص نزولا عن حكم الأغلبية، فالأغلبية التي لا تكون محكومة بشرع الله انظروا إلى أي حد يمكن أن يكون اختيارها خاطئا، ليس هذا فقط، قوانين الأغلبية التي لا يحكمها الشرع ،تسمح للزوجة أن تراقص رجلا يقع اختياره عليها أمام زوجها في ملهى ليليّ، إذا رغبت؛ لإنه يدخل في نطاق حريتها، وتسمح للبنت إذا وصلت السادسة عشرة أو الثامنة عشرة أن يأتيها صديقها إلى بيت أبيها وتقضي معه الساعات الطوال على فراش واحد؛ لأنه ليس فراش زوجية، ولا يقدر الأب أن يمنعه. 

قوانين الأغلبية في الغرب وفي الشرق لا تمنع الخمر لا في العلن ولا في السر، وتُرخص لحاناته، قوانين الأغلبية _التي لم تتقيد بشرع الله_ في العالم من أقصاه إلى أقصاه، اقتصادها يبيح الربا، ويشجع عليه، والقمار يرخص لأنديته وصالاته، حتى المخدرات هذه القوانين لا تجرم صاحبها إلا إذا ضبط متلبسا، فلا يقدر القانون ولا رجل مكافحة المخدرات أن يلقي القبض على أكبر مدمن أو تاجر مخدرات إذا لم تكن بحوزته، وفي جيوبه مخدرات يخفيها؛ لأن القوانين لاتجرّم في المخدرات غير المتلبس.

يقول المحاور: مرة تقولون : الدستور لابد أن يتضمن نصًا يقول الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع، ثم قلتم مرة أخرى ينبغي أن تكون العبارة في الدستور "كل قانون يخالف الشريعة الإسلامية يعد باطلا" أليس هذا تناقضا ؟

الجواب: يبدوا أننا بحاجة إلى تعريف التناقض، فالتناقض له تعريف في علم المنطق يعرف منه،ما إذا كان الكلام متناقضا حقا أم لا، فقد يظن من لايحسن ذلك أنَّ الكلام متناقض، وفي الحقيقة ليس هو كذلك، النقيضان عند المنَاطِقَةِ هما الأمران اللذان لايجتمعان ولا يرتفعان، كالوجود والعدم، فلا يمكن أن يكون الشيء موجودًا معدومًا في وقت واحد، فهل القول بأن الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد مع القول بأن "كل ما يخالفها يعد باطلا " يعد تناقضا بهذا المعنى أي لا يجتمعان ولا يفترقان؟! لا أظن أن عاقلا يوافق على ذلك فإن العبارتين مؤداهما واحد، وهو وجوب التحاكم إلى الشريعة الإسلامية لا إلى غيرها، ولوكان التعبير على المعنى الواحد بأساليب متعددة تناقضا لكان أكثر كلام الناس متناقضا، وفي القرآن ذكر الله عز وجل مرة ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) ومرة (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) فهل هذا تناقض؟ لا يقول هذا من له أدنى معرفة بكلام الناس.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

التبويبات الأساسية