آيات القتال وإبرام الهدنة والعهود

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

عندما أُذن للمسلمين بعد الهجرة بالقتال؛ أُمروا بقتالِ المشركين على الدِّين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أُمرتُ أنْ أُقاتلَ الناسَ حتّى يقولُوا لا إلَه إلّا الله)[رواه البخاري ومسلم].

واستمرَّ ذلك إلى أنِ انتشرَ الدين، ودخلَ الناسُ فيه أفواجًا، ودانَتْ جزيرةُ العربِ بالإسلامِ، ويَئسَ الشيطانُ أن يُعبدَ فيها.
بعدَها أُذنَ للمسلمين بالتعايش مع الكفار، في ظلّ عقود ثلاثة؛ الجزيةُ لأهل الكتاب، والهدنةُ، والاستئمانُ للمحاربين.
وعلى هذه العهودِ الثلاثةِ يتنزل قولُ الله تعالى في سورةِ البقرةِ: (لَا إِكرَاهَ في الدينِ قدْ تَبينَ الرّشدُ مِن الغَيِّ) [البقرة:256].

وآياتُ القتالِ في القرآنِ متنوعةٌ بتنوعِ مراحلِ الدعوةِ، وهي على النحوِ الآتي:

1 - آياتٌ تتعلقٌ بقتالِ الدفعِ خاصةً؛ كما في قولِه تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ولَا تعْتَدُوا)[البقرة:190]، وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ)[البقرة:194].

وهذه لا تتعارضُ مع آيةِ (لَا إِكرَاهَ فِي الدّينِ)؛ لأنّ قتالَ المُدافعةِ ليسَ معه إكراهٌ، وإنّما هوَ دفعُ عدوانٍ.

2 - آياتٌ أَمرت بالقتالِ المطلقِ في كلّ حالٍ، دونَ قيدٍ ولا غايةٍ ينتهي إليها، ومنها ما قيل عنها آيةُ السيفِ، وما في معناهَا، في قولِه تعالَى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)[التوبة:5]، وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة:73].

3- آياتٌ عارضَتْ في الظاهرِ هذا الإطلاقَ، لأنها أمرتْ بالقتالِ، وقيدتْهُ بغاية، وهي إعطاء الجزية، ففي القتال المغيى بالجزية يقول الله تعال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة:29].

وفي الهدنة والأمان يقول الله تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)[الأنفال:61]، وقوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)[التوبة:9].

وهذان النوعان؛ (آياتُ الإطلاقِ بالقتال، وآياتُ تقييدِه بالهدنةِ والجزيةِ)، يُحملُ فيهما المطلقُ على المقيدِ، أي أنّ القتالَ المأمور به مقيدٌ بعدمِ وجودِ عهودِ الهدنةِ أو الجزية.

4 - آياتٌ جاءَ الأمرُ فيها بالقتال مغيّى بغايةٍ؛ (حَتّى لا تَكونَ فتنةٌ)؛ كما في قولِه تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة:193]، وهذِه إذا أُخذ في الاعتبارِ أنّ الفتنةَ ليستْ مجردَ الكفر فقط، وإنما كفرٌ مصحوبٌ بفتنةِ المسلمينَ عن دينهم، ومنعٍ مِن التمكينِ له بالصدِّ عنه، والعدوانِ عليه، فإن قتالَهم ينتهي بانتهاءِ ذلك؛ لقولِه بعدَ ذلك: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة:193]، فيرجعُ الأمرُ بالقتالِ فيها إلى قتالِ الدفعِ، وقد تقدَّمَ.
وبذلك يتمُّ الجمعُ بين آياتِ القتال، وتكونُ كلّها محكمة قد عمِل بها.

قد يقول قائلٌ: إنّ الهدنةَ مع غيرِ المسلمينَ كانت في العهدِ الأولِ محددَةً بمدّة؛ كما فعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في صلحِ الحُديبية، أما اليوم فهي هدنةٌ مفتوحةٌ بلا نهايةٍ، حتّى صارتْ هي الأصل، وهذا من التفريطِ والتغييرِ لأحكامِ الجهادِ.

الصحيحُ في هذه المسألة؛ أنّ الهدنةَ تجوزُ مطلقةً وتجوز محددةً بمدةٍ، تبعًا للمصلحةِ، وحالةِ المسلمينَ قوةً وضعفًا.
ويدلّ لذلكَ أنّ عامةَ عهودِ النبيّ صلى الله عليه وسلمَ معَ المشركينَ كانت مطلقةً، غير محددةٍ، وكانتْ جائزةً، غيرَ لازمةٍ.

فقد بعثَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليًّا رضيَ اللهُ عنه؛ ليلحقَ بأبِي بكرٍ عامَ حجَّ بالمسلمين؛ بعثه ليعلن علَى الناسِ في الموسمِ صدرَ سورةِ (بَرَاءَة) بنبذِ العُهود.
وجاء فيها أنّ ما كانَ منها مطلَقًا غير مؤجل بأجل، أعطِي المشركونَ فيهِ أربعةَ أشهرٍ بالعدد آمنين؛ ليكونُوا فيه مع المسلمينَ على سواء، وأن منْ كانَ له مدةٌ فهو إلى مدّتِه؛ كما قال تعالى: (بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) ثم قال: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ)[التوبة:1-5].
ويدل لذلك أيضا قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليهودِ خيبرَ: (نتْركُكم فيها ما شِئنا...)[رواه البخاري]، ولم يضربْ لهم أجلًا.

وفي بعثِ النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا رسولًا خاصًّا، يبلغ عنه نبذَ العهود؛ دونَ أنْ يتولَّى ذلكَ الصِديقُ أميرُ الحجِّ في الموسمِ، دليلٌ على أنّ أمرَ الهدنةِ - إبرامًا ونبذًا - هوَ من اختصاصِ وليّ الأمرِ إمامِ المسلمينَ، أو مَن يُخوِّلُه بذلكَ، ولا يكونُ لغيرِه دونَ تنصيبٍ، فلم يتولّه الصِديقُ على علوِّ منزلتِه، وفضلِه في الإسلامِ وسَبقهِ، ولو تولَّاه لكانَ أهلًا لهُ وحَريًّا بهِ، ولكنّ الأمر كان على خلاف ذلك، لتكونَ سنةً للمسلمينَ متبًّعةً، في إرساءِ قواعدِ أمنِ الأمة، وتأسيسِ سياسةِ السلمِ والحربِ مع الخصوم .

قارن هذا بحالنا اليوم، لم يبقَ أحدٌ لم يعْطِ نفسَه الصلاحية لعقد العقود والعهود، استلابا وتعديا علَى صاحبِ الحقِّ الآصيل، ولي الأمر، حتى أضعفوه في وجه عدو مشترك، يتربص بالجميع الدوائر، لن يرضى بأقل من عداوة الدين وإبعاده، وارتهان سيادة الوطن بأسره، أهلكت عهوده المفخخة جيرانًا لنا وأشياعا (فهل من مدّكِر)، قالَ تعالى: (وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة:193].

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الجمعة 4 ذو الحجة 1436 هـ
الموافق 18 سبتمبر 2015 م

التبويبات الأساسية