بسم الله الرحمن الرحيم
لا شكّ أن الكثير من علماء الأمة والدعاة والمفكرين، ومن لرأيه وزنٌ وخطر، ليس براضٍ عمّا تُساسُ به الأمورُ في بلاده - كليا أو جزئيا - وهو يراها تَتنكّبُ الطريقَ.
كما أنه لا شك أن مِن أعضاء الحكومة وأعضاءِ المؤتمر وكثير من العاملين في مؤسسات الدولة في ليبيا ؛ المالية والرقابية والقضائية والإدارية - مَن ليس براضٍ عما يراهُ من تدهور الأحوال، الذي يهدد أمن البلد ومستقبلَها وثوابتَها، ويهددُ الحِفاظَ على هُويتها، وما تتعرض له من محاولة إقحام أطراف خارجية في شؤونها، وابتزاز، وفساد إداري ومالي وأخلاقي واسع، وينكر ذلك بقلبه ولا يرضاه، وأنه في خلواته وبين أصحابه هوَ مع الحق، لا مع الأهواء، ولا مع الالتواء.
لكن يمنعه من أن يكون في الحق قويا، وعليه ثابتا جريئا، موانعُ، لعل على رأسها ما يرجع إلى ما اشتكى منه عمر رضي الله عنه: (اللهمّ إني أشكو إليك ضعفَ الثقةِ وجَلَدَ الفاجرِ).
وهنا الغرابة !
جرأةُ أهل الباطل في الوقوف بقوة مع باطلهم، وتهاونُ أهلِ الحق، وضعفُهم في التمسك بحقهم!
بل الأكثرُ غرابةً في زماننا، ألا يكتفي مَن يُفترَض أن يحملوا همومَ الأمة بفتورِهم في أنفسِهم، وإنما ربما يُناصِحون بالفتورِ من يُحاول ألّا يفتُر، باسمِ التعقُّل، وأنّ المطلبَ صعبُ التحقيقِ، والسقفَ عالٍ بحسب الواقع قد يُجانبه التوفيق، وهجمةَ الخصوم شرسة، وقُوَّتَهم عاتية.
وذلك لصَولةِ الباطلِ وعرامتِه وهيمنته، وضجيجِ إعلامِه وجلبتِه !
ولهذا الفتورِ - في الغالب - سببٌ آخرُ، قد يقع التبريرُ بهِ، وهو الخوفُ على أهلِ الحقّ أنْ يتناولَهم خصومُهم بالسوءِ، ويَسلُقوهم بألسنة حداد.
فإن العادة قد جرت أن مَن يتكلم، ولا يسكتُ عن الفسادِ، تُشوهُ صورتُه بفزّاعات معروفةٍ؛ إنْ كانَ ينطلقُ مِن دينِه ففَزّاعتُه (الإرهابُ!) أو (الإخوانُ!)، وإن كان ينطلقُ مِن قِيَمِه ففزّاعتُه الجمودُ والتخلفُ، ومَن لا يليقُ بهِ الجمودُ؛ لأنّه يحملُ شهاداتِ العلم مِن بلاد الغربِ، يُرمَى بالتشنجِ وعدمِ العَقلانية، ومَن لا يَصلح معه لا هذا ولا ذاك، أضعفُ الإيمانِ أن يوصَف بالكذاب الفتان، أو حتى بما هو أشدّ مما يعفّ عنه اللسان!!
وهذا - كما يقول الغيورون - يُسقط هيبةَ من هم في محل القدوةِ في أعينِ الناسِ، وسقوطُ هيبتِهم ضارّ بالأمة!
فهل ارتفاع المطلب واستبعاد تحقيقه، أو الخشيةُ مِن ألْسنةِ السوءِ، عذرٌ للعلماء، أو لمَن وَليَ أمرًا مِن الحكامِ في السلطات الثلاث؛ التشريعية والقضائية والتنفيذية، يمنعُه مِن أن يقولَ الحقّ، وأن يتكلمَ به؟!
قواطع الشريعةِ في نصوصِها الواضحةِ الصريحةِ تقول: الخوفُ مِن الإخفاقِ، ليس عُذرًا على الإطلاقِ، فالقرآنُ كلّفَنا بالبيان؛ (لَتبيّنُنّهُ للنّاسِ ولَا تكتُمُونَه)، ولمْ يكلّفْنا بالهداية وتغيير الأحوال، فذلك لمن له الأمر والشأن؛ (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)، (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)، (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ).
كلَّفنا اللهُ بالسعي؛ (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)، (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، ولم يكلِّفنا بالغِنَى؛ (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّه يَبْسُط الرِّزْق لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِر)، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا).
فالسؤالُ لِمَن حملَ على عاتقِه رسالةَ الحق، مِن العلماءِ ووُلاة الأمر، هو: هل الأمرُ في ذاتِه صلاحٌ أم فسادٌ؟ وهل هوَ مِن الحقّ أم مِن الضلالِ؟ وليسَ السؤالُ: هل الأمرُ واقعيّ سهلٌ، أو مستبعَدٌ صعبٌ؟
فما كانت رسالة الأنبياء سهلةً يومًا مِن الأيام؛ (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)، (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا)، (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لما سمعوا الذكر).
ويأتي النبيُّ عليه الصلاة والسلام يومَ القيامةِ ومعه الرجلانِ، ويأتي ومعه الرجلُ، ويأتي وليسَ معه أحدٌ!
فهل ندِموا؟ أو كان إرسالُهم غيرَ مفيد؛ لأنه لم يتبعهم أحدٌ؟!!
أمْ أُقيمت الحجةُ، وبرئتِ ذِمة الرسلِ بالتبليغِ؟
الله تعالى أعطانَا الجوابَ عن هذا السؤال الكبير؛ (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) (قَالُوا مَعْذِرَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
أمّا عن خشيةِ الناس وتهيبِ هجمَتِهم، فمَن تَصدّى لنُصرة الحقّ فقد أعطَى مِن نفسِه لربه، ولن يندمَ، وله في رسُلِ الله وأنبيائه قدوةٌ وأسوةٌ، وقد أمَرنا اللهُ بالاقتداءِ بهَديِهم، وبتحملهم وصبرِهم (فَبِهُداهُم اقتَدِه)، ووَصْفُ أقوامِهم لهم بالجنون والكذب والافتراءِ، وغيرِ ذلك مِن الأوصاف التي يُنزَّهونَ عنها، شائعٌ متكررٌ في القرآنِ؛ (إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ)، (أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ).
وقد رفعَ الله قدرَهم، وأعْلا شأنَهم، وأثنى عليهم، ولم يُسقط هيبتَهم، وترك عليهم في الآخرين؛ (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (وتركنا عليه في الآخرين) (أولئك الذين هدى الله)، وسمّاهم مجاهدِين؛ ووصفهم بالخشية؛ (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ).
وفي صحيح السنة: (لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ أو يتكلم بِحَقِّ إِذَا رآه أو عرفه، قال أبو سعيد الخدري: فَحملني ذلك على أن ركبت إلى معاوية فملأت أذنيه ثم رجعت)
وهذا ما تفتقدُهُ الأمةُ مِن علمائها هذه الأيام!!
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الجمعة 18 محرم 1435 هـ
الموافق 22 نوفمبر 2013 م