حوار مع ناقم (2)

بسم الله الرحمنِ الرحيمِ

(حِوارٌ مَعَ نَاقِمٍ) (2)

شبهاتٌ تدورُ على لسانِ الناقم، الذي لا يحب أن يشارك فيما يجرِي في ليبيا مِن انقِسامٍ، ومِن معاركَ بالسلاح أو بالكلام، ويرى السلامة في أن ينأى بنفسه عنها جميعا.

لو سألته: ما موقفكَ مِن الحربِ الدائرةِ في طرابلسَ وقبلها في بنغازي، وقَتَلَتْ وتَقتُلُ خِيرةَ شبابِنَا؟
لقال: فتنةٌ، الجالسُ فيهَا خيرٌ مِن القائِمِ.
قلتُ: الفتنةُ التي يهرَبُ منها المسلمُ ولوْ أنْ يعضَّ على أصلِ شجرَةٍ، هيَ عندَ الهرجِ الذي يلتبسُ فيه الأمرُ، ولا يُعرفُ المحقّ مِن المُبطِلِ.
والقتالُ في ليبيا - منذُ أنْ بدَأَ - هو قتالٌ بينَ خارجٍ عنِ الشرعيةِ منقلبٍ عليها في إعلانٍ مُتلفزٍ، مدعوم في قتاله بتدخّلٍ خارجيٍّ، قصفَ المدنَ وهجّرَ عشراتِ الآلافِ مِن ديارهم، واستباحَ الحرمات والممتلكات، ونادَى قادتُهُ على رُؤوسِ المَلأِ بعداوتِهِم لشرعِ اللهِ، وقالوا لا نريدُهُ، وبين طرفٍ آخرَ يواجهه، متمسك بالشرعيةِ، يدافِع عن التداولِ السلميِّ للسلطة، والقيامُ بأمرِ اللهِ الذي أوجبهُ على عبادهِ على رأس أولوياته، وقد خَطَا في ذلك خطواتٍ رآها الناس، فهُمَا أيها المسلم - الذي تخشى الفتنة في القتال - طَرفانِ؛ مُحقّ ومُبطلٌ، مُعتدٍ ومُعتدى عليهِ، رايةُ الحقِّ فيهِ واضحةٌ، ليست عِمّيّة.

قال: إنْ سلَّمنا بوضوح الراية، فالابتعادُ ورع وتنزّهٌ وسلامة! فإنّ ابنَ عمرَ ومعه بعضُ خيارِ الصحابةِ اعتزلُوا القتالَ بين الصحابة، مع وضوحِ الرايةِ.
قلتُ: نعمْ، تورّعَ بعضهم معَ وضوحِ الرايةِ، لكنّ المقاتلين لجيش علي رضي الله عنه كانُوا مُتأوِّلينَ، رافعين شعارَ: لا حُكمَ إلّا لله، وهؤلاءِ اليومَ يقولون: لا نريدُ شرعَ اللهِ، ولو قال ذلكَ المقاتلون لعلي لقاتلهم ابنُ عمر وغيره، كما قاتلوا مانعي الزكاة، ومع ذلك صحّ عن ابن عمر أنه ندم عن كفه عن القتال، وقال: كففتُ يدي، والمقاتلُ على الحق أفضل.
هذا مع الأخذ في الحسابِ أنّ القتال عن طرابلس اليومَ هو قتالُ دفعٍ، لا قتال طلب، فلا مقارنة.

قال: ولكنّ المُعتدَى عليهم أشتاتٌ، وفيهم من أعمالُهُ في الإجرام وسجونِ التعذيبِ لا تقلُّ بشاعة عمَّا يفعلُهُ حفتر.
قلتُ: قولك (وفيهم) معناه أنّ فيهمْ مَن ليسَ كذلكَ.

قال: نعم، لكنهم قليلٌ، لا حولَ لهم ولا سُلطانَ.
قلت: أليسَ الواجبُ البحثَ عنْ هذا القليلِ وتكثيره ليكون له سلطان؟! فإنّ اللهَ تعالَى أمرَنَا بتكثيرِ سوادِ أهلِ الحقِّ، فقالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، وأمرنا ألّا نُؤْثر الصمتَ طلبًا للراحةِ، بل نتكلم بالصواب،

فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يأخذ على المسلمين عند البيعةِ على الإسلام العهد: (وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ) (البخاري)، فتَرْكُ المشاركة في قضايا الأمة، وهي مصيريةٌ، والتعامل معها بسلبيةٍ مذمومٌ كتابًا وسنةً.

قال: حتى هذا القليلُ المتمسكُ بالمبادئ متقلّبٌ، يبحثُ عن مصالحهِ، ويُتاجرُ بالشّعاراتِ، فهو فاسد كغيره.
قلت: قد أتفقُ معك على أن فيه فسادًا، لكنْ لابد أنْ يكونَ فيه فاسِدٌ وأفسد، ومَن هو مُتقلبٌ مرةً واحدةً ومرتينِ، ومَن هو متقلبٌ عشراتِ المراتِ، وقد يكونُ فيه مَن لم يتقلبْ، فالواجبُ أنْ نكونَ معَ الأقلِّ فسادًا؛ لتقليلِ الفساد، فندفع أعظمَه بتحمّلِ أقلِّهِ، والشرائعُ ما جاءتْ إلَّا لهذَا، وأُمَمُ الأَرضِ وعقلاءُ الناس في كل البلاد التي لها شأن عبر التاريخ إلى اليوم تصنعُ هذا.
فليسَ في الدنيا خيرٌ محضٌ، ولا شرٌّ محضٌ، فذلكَ لا يكونُ إلَّا في الآخرةِ، التي هي جنةٌ ونارٌ، أمّا الدنيا فلَا مَناصَ مِن وجودِ الشرِّ فيها، ولا ينصلِحُ أمرُها إلّا بالتدافُعِ الذي يصطفي الله فيه من يشاء من عباده لدفع الفساد (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).
وأقل درجات الوقوف في وجه الفساد، أنْ يتخلَّصَ المرءُ مِن السّلبيةِ، ويكون له دورٌ يؤدِّيهِ ينفَع به نفسَه وأمَّتهُ، وشعارُ الإسلام: (وَقُلِ اعْمَلُوا).

قال: البحثُ عنِ الأقلِّ فسادًا كالبحثِ عن إبرةٍ في جبلٍ مِن القَشِّ.
قلت: هذا هو التحدِّي؛ أنْ تَبحثَ ولا تستسلِم وإنْ عظمت المعوقات، وإذَا بحثْت مع غيرك عنِ الإبرةِ الضائعةِ، فسيلتقي الجميعُ عندَ هذا الجبلِ، ويتحقق الهدف، فإن الله تعهد للمصلحين بذلك: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

وإلى اللقاء في حوار آخر مع الناقم.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
24 محرم 1441 هـ
الموافق 23 سبتمبر 2019 م

التبويبات الأساسية