بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
تجربةُ إلغاء التعليم الدينيِّ أنبتتِ التطرّفَ في بلادِنا
الإجراءات التي اتخذها وزير التعليم - وفقه الله - بالقضاء على الغشّ في امتحان الثانوية العامة، كان قرارا موفّقًا، يستحق الإشادةَ والتقديرَ من كل منصف ؛ لأن ما كان عليه الحالُ مِن تفشي الغشِّ والتعاونِ عليه - من العاملين بالتعليم وأولياءِ الأمور - كان وصمةَ عارٍ على التعليم، أفقدتْهُ المصداقيةَ في بلادِنا، وأدّى إلى تخرّجِ أجيالٍ فاشلة، غير مؤهلةٍ علميًّا ولا تربويًّا، ولا قادرةً على العطاءِ في أيِّ مجالٍ توجّهتْ إليه، إلَّا مَن رحمَ ربُّك.
هذا ما أثلج الصدور من وزارة التعليم، لكن على الجانب الآخر، لقد انغمَّت الصدور وانقبضَتْ وضاقت وتألمت، مِن التوجيهِ الذي صدرَ مِن إداراتِ التعليم إلى المعاهد الدينيةِ، بمنعِها مِن قَبولِ الطلَّاب هذه السنةَ بالمرحلةِ الإعداديةِ، وهذا معناهُ إنهاءُ المعاهدِ الدينيةِ، وقفلُ هذا التخصصِ، وحرمانُ الطلّابِ والبلد منهُ.
وكأنّنا بذلك ننتكسُ إلى الوراءِ، ونعيد التجربةَ التي مرت بنا في عهد القذافي، في بداية السبعينيات مِن القرن الماضي، والتي لا نزالُ نعاني اليومَ مِن حصادِها المُرّ، الذي أنبتَ لنا التشددَ والتطرفَ، بمختلفِ درجاتهِ.
منعوا الطلابَ في ذلك الوقت، مِن التعليم الديني الوسطيِّ المقنَّن، الذي يدرس كتب المذهب المالكيِّ، تحت نظرِ وإشرافِ المؤسسات التعليمة، منعوهم من ذلكَ، فأجبروا الشباب على الهجرةِ والسفر إلى دول الخليجِ وغيرِها، وهناك كثير منهم وقعَ ضحية الغلوِّ، فرجعوا إلينا قنابلَ ملغومة، وأسَّسوا في بلادنا للمناهجِ المتطرفةِ، التي لم نكن نعرفها قبل ذلك عندما كانت المعاهد الدينيةُ تقوم بدورها، مثل معهد أحمد باشا في طرابلس، والمعهد الأسمري في زليطن، ومعهدِ البيضاءِ الديني، وكلّ واحدٍ مِن هذه المعاهدِ كانَ يضمُّ مئات الطلاب، ومهما فتشتَ؛ لن تعثرَ على طالبٍ واحدٍ مِن أهلِ التطرفِ في هذه المعاهدِ.
هذه حقيقةٌ عشناها، لا بدَّ أن يقفَ عليها الناسُ، لم يَعرفِ الغلوُّ إلى بلادِنا طريقَه، ولم ينبُتْ بيننَا، إلا بعدَ القضاءِ على التعليم الدينيِّ.
بدأَ القذافي في القضاء عليهِ بالتدريجِ، خطوةً خطوةً؛ وجدَ مدارسَ قرآنيةً منتشرةً في ربوعِ ليبيا، كانت في كلِّ شارعٍ تقريبًا، تنافسُ المدارسَ النظاميةَ في المرحلة الابتدائيةِ، وبعد التخرج منها، يتوجهُ الطالبُ للمعاهدِ الدينيةِ، ثم إلى الكلياتِ المتخصصةِ في الشريعةِ واللغةِ وأصولِ الدينِ بالبيضاء، فبدأ بمنعِ القَبول في المدارس القرآنيةِ، حتّى خرَّجت ما عندها، وأغلقتْ أبوابَها، وبعد ذلك منعَ القبولَ في المعاهدِ الدينيةِ، فخرّجت ما عندها، وأغلقتْ أبوابَها، ودمجَ الكلياتِ الثلاث - السالفة الذكر - بالبيضاء في كليةٍ واحدةٍ، ثم صدرَ قرارٌ بإلغاءِ هذهِ الكليةِ الواحدةِ، وتحويلِ طلابِها إلى كليةِ القانونِ في بنغازي، وبذلك تمَّ القضاءُ على التعليم الدينيِّ قضاءً تامًّا، مِن أعلى رأسِه إلى أخمصِ قدمه، وصارَ مِن المحرَّماتِ في الجامعةِ أو المسجدِ أو الأماكنِ العامةِ، أن ينطقَ أحدٌ بشيءٍ اسمُه دراسةٌ دينيةٌ أو إسلامية، أو سنة نبوية، أو الحديث الشريف، والنطقُ بواحدةٍ من هذه يُدخلُ غياهبَ السجنِ، ويواجهُ صاحبُهُ تهمةَ (رجعيٍّ وخائنٍ)، وسمِّيت كتبُ هذه العلومِ (الكتبَ الصفراءَ)، مَن ضُبطتْ عندهُ ضُبطَ متلبسًا بتهمةِ (الرجعيِّ والخائنِ)، وغٌيّرَ اسم كليةِ التربيةِ - التي كانت تضمُّ قسمًا للدراساتِ الإسلامية التي سمُّوها (قرآنية) فرارًا مِن الإسلامية - غُيرتْ إلى كليةِ العلومِ الاجتماعيةِ، وأصدرَ عميدُها قرارًا في ذلك الوقتِ، بوقفِ مرتباتِ جميعِ الدكاترةِ المتخصصينَ في الدراسات الإسلامية، المتخرجينَ مِن البيضاءِ ومِن الأزهرِ، بحجّةِ أنّه لا يوجدُ لهم عملٌ لديهِ، ولا شيءٌ اسمُه دراسات إسلامية، وطُردُوا مِن العملِ، وجُمعتِ الكتبُ الصفراءُ في ميدانِ الشهداءِ وساحاتِ الجامعةِ، وأُشعلت فيها النيرانُ، ومعها كتبُ اللغةِ الإنجليزية، وسطَ هتافاتِ الغوغائيين والمنافقينَ.
فهلْ تعودُ الأيامُ سيرتَها الأولى؟
وهل ما حدثَ للمعاهدِ اليوم، هو من بابِ أول الغيثِ قطرة؟
فما الذي دهَى المسلمينَ، وجعلَهم يتحسَّسونَ مِن تعليم دينِ الفطرةِ في بلادِهم؟ وهل يلغَى التعليمُ الدينيّ، الصادر فيه قانونٌ، بتوجيهاتٍ مِن إدارات التعليمِ الفرعيِّ في المناطقِ؟
أينَ رجالُ القانونِ والحقوقيونَ؟ وهل هذا هو السبيلُ لإقامةِ الدولةِ، وبناءِ العملِ المؤسَّسي، ولإصلاح التعليم الديني إن كان به خلل؟ وإذا كان كذلك، فما ذنب الطلاب بحرمانهم ودفعهم الثمن لتقصير وزارة التعليم في تنفيذ الإصلاحات؟ وهل منعت الوزارة قبول الطلاب بمدارس التعليم العام في مناطق مدارسها من الصفيح، وفاقدة لكل مقومات العملية التعليمية؟!
أينَ الغَيْرةُ على الحفاظِ على هُويةِ الأمةِ؟ وما المبرِّرُ لمنعِ الطالبِ مِن هذا الفرعِ مِن التعليمِ المتعلقِ بهُويتِهِ، الذي لا يجدُه في بلاده ويجده في بلاد غير المسلمين أينما اتجهت، من بلاد الأمريكان إلى اليابان؟! فبأيّ حقٍّ ياترى يُمنعُ منهُ في بلادِهِ؟!
نبؤوني بعلم إن كنتم صادقين!
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
18 محرم 1440 هـ
الموافق 28 سبتمبر 2018