بسم الله الرحمن الرحيم
(الحلُّ في علاجِ الأسبابِ، بعيدًا عنِ التدخّلِ الأجنبِيِّ)
إذا أرادَ المسؤولونَ علاجَ ما يحصلُ في طرابلسَ مِن قتالٍ، وفي ليبيا مِن أزماتٍ؛ عليهم أن يعالجوا أسبابَهُ، بروحٍ وطنيةٍ صادقةٍ، لا بروحِ المجتمعِ الدوليّ، ولا تدخلٍ أجنبيّ.
لا زلتُ أضربُ المثلَ بملفّ تاورغاء، عندما صدقتِ النيةُ في حلِّه، بروحٍ وطنيةٍ، وأطرافٍ محليةٍ، وأبعدوهُ عن التدخلِ الأجنبيِّ، تكلّلتْ فيه مساعِي الخيرينَ مِن أبناءِ الوطنِ بالنجاحِ، وانتهتِ الفتنةُ.
وقد حاولَتْ جهاتٌ أجنبيةٌ - استعملتْ أطرافًا محليةً - أنْ تُتاجرَ بهِ، وتجعلَ منهُ قضيةَ مضطَّهَدينَ، لبثِّ الفُرقة والكراهيةِ، وإثارةِ الفتنِ، لكنّها بفضلِ اللهِ غُلبتْ.
للأسف؛ الجهاتُ الخارجيةُ بما فيها بعثةُ الأمم المتحدةِ، لم تلتزمِ الحيادَ لحلِّ الصراعِ في ليبيا، وإنما كانت دائمًا منحازةً إلى الطرفِ المناهضِ للثورةِ ولتطبيق القانون، ذلك منذ أن رفضتِ البعثةُ حكمَ المحكمةِ العليا بحلِّ البرلمانِ، وحقُّها أنّها ما جاءتْ إلّا لاحترامِ القضاءِ وحمايةِ القانونِ، لكن للأسفِ؛ كانتْ أولَ المُسقطينَ لهيبتهِ، وربّما الآنَ اعترفت بأنَّ البرلمانَ مُعَرقِلٌ، ولم يعدْ صالحًا، لكن كمَا يُقال: بعدَ خرابِ مالطا، فقد احتاجتْ إلى كلِّ هذه التكلفةِ الباهظةِ مِن الأرواحِ والدمارِ، التي دفعَها الشعبُ الليبيُّ، حتّى تعترف بهذه الحقيقة.
ولستُ في ذلك متجنِّيًا عليها - معاذَ الله - بل هيَ الأحداثُ والوقائعُ تترجِمُ عن نفسِها.
التزمتِ البعثةُ الدوليةُ الصمتَ ولم تُصدر ولو بيانًا واحدًا لإدانة حفتر إدانةً مباشرةً، أو تلوّح له بالعقوبةِ، كما تلوّحُ لغيرهِ الآن وطولَ السنين الماضيةِ، تلتزم حياله الصمت وهي تراه يُهجِّرُ، وترَى أتباعَه يقومون (بتصفية) خصومَهم مكبَّلينَ في الميادينِ بالقتلِ المباشرِ، وتراهُ يحاصرُ المدنَ في قنفودة ودرنة، وترى البعثة التدخلَ الأجنبيَّ السّافرَ، المصريّ والإماراتي، وعساكرَهم وطائراتِهم تقصفُ المدنيين، وبقيتِ البعثةُ مدةَ حصارِ درنة - والمدنيونَ يستغيثونَ - ملتزمةً الصمتَ، وجبهةُ دفاعِ درنةَ تمدُّ يدَها للسّلم الاجتماعي والمصالحةِ، راضيةً بوساطةِ البعثة الأمميةِ، وكانت فرصةً سانحةً للبعثة أن تتقدمِ بشيءٍ ينقذُ المدنيينَ، لكنّها أعطتهُم ظهرَها، والتزمتِ الصمتَ، حتى أكملَ حفتر المهمة.
لذا؛ فإنّي أقول للمسؤولين في بلادي: عالجُوا الأسبابَ فيما يجري علاجًا حقيقيًّا، بروحٍ وطنيةٍ، بعيدًا عن التدخل الأجنبي، وستَرونَ النتائجَ.
الذي أشعلَ الحربَ هو شعورُ الناسِ بالغَبنِ والتفريط في الوطنِ، هو الاستخفافُ والتهاونُ بحقوقِ المواطنِ، وعدم المبالاة بمعاناتِهِ، وإذلالُهُ بمشاكلَ إضافيةٍ بعدَ مشروعِ الصخيرات، كثيرٌ منها مُفتعل، لا يُرادُ له أن ينتهي.
والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ، منها:
1- السيولة كان يمكنُ التغلب عليها بالتوسع في التعاملِ الالكتروني، حتى تفقدَ السيولةُ أهميتَها، ويقلَّ طلبُها، ويجعلها غيرَ ذات بالٍ.
2- تهريبُ السلع المدعومة والوقود، الذي يؤخذ من جيبِ المواطن، ويُهدَى إلى دولِ الجوار، لم تُنفذ الوعودُ التي نسمعُها منذ سنين بالتعويض عن الدعم بالزيادة في المرتب، أو بالأخذِ على يدِ المهرِّبينَ.
3- الهجرة غير الشرعية، التي تقامُ المعسكراتُ لإيوائِها، وهي مصدرٌ مِن مصادرِ زعزعةِ الأمنِ، وتجنيدِ المرتزَقة، وبخاصّةٍ في الجنوبِ، الذي يعانِي منها الويلات، الجنوب الذي يكادُ يفقدُ مقوّماتِ الحياة، لتفاقمِ الأزماتِ عليه، وعلى رأسِها الهجرة غير الشرعية، التي تستبيحُ الحرماتِ والأملاكَ، في غياب القانونِ، ومعسكراتُ الإيواءِ تشجعُ على المزيدِ مِن تدفقهم.
إذًا فلمصلحةِ مَن تُقامُ هذهِ المعسكرات؟ لا تُقام لمصلحةِ ليبيا ولا شكّ، بل لراحةِ دولِ البحرِ الأبيض على الضفةِ الأخرَى.
الذي أشعلَ النارَ هو انعدامُ الخدماتِ الأساسيةِ، في كافةِ المرافقِ، على الرغمِ مِن صرفِ الميزانياتِ الهائلةِ للوزاراتِ السياديةِ، في الداخليةِ والدفاعِ والصحةِ والتعليمِ وغيرها.
الذي أشعلَ النارَ الفسادُ الماليّ والإداريُّ، والتجاوزات الكبيرةُ، والرغبةُ في الاستحواذِ على المال العام، وإنفاق المسؤولينَ له بالملايين، سواء في الغربِ أو في الشرقِ، على مكاتِبِهم ومتعهم وسفرياتهم وحاشيتهم، وما أظهرهُ تقريرُ ديوانِ المحاسبة في هذا قليلٌ مِن كثيرٍ.
فهل اتُّخذت إجراءاتٌ ضدَّ مَن ثبتَ تورطُهُ في الفسادِ، وقدِّم للعدالةِ، أو حُرمَ مِن منصبهِ؟! لا بالعكس؛ لا يزالُ يصولُ ويجولُ، وكأنهُ يقولُ: سأريكم في المرةِ الجائيةِ ما لمْ تروهُ.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أُناسًا يتخوَّضونَ في مالِ اللهِ بغيرِ حقٍّ، فلهُم النارُ يومَ القيامةِ).
وما أظهرهُ تقريرُ الخبراء الدوليينَ، مِن استيلاءِ جماعةِ حفتر وأولادِه على أموالِ المصرفِ المركزيّ في بنغازي، يُعدُّ مِن الجرائمِ الماليةِ المخزيةِ، التي يستحي أمامَها اللصوصُ وقطّاع الطرقِ.
فهل ندّدَتِ الحكومةُ بهذا العارِ والشنارِ واستنكرتهُ، وقدّمتِ القائمينَ بهِ - وهم معروفون - إلى النيابةِ، وأمرت بالقبضِ عليهم، لتبرئَ ذمتَها، حتى لو كانت عاجزةً؟
ثمّ مَن الأَولَى بالكشفِ عن هذه الفضيحة، والتنديدِ بمرتكبِيها؟ أَخبَراءُ الأمم المتحدةِ، أم إدارةُ مصرفِ ليبيا المركزيّ، التي اعتُديَ عليها، وسُلبت منها هذهِ الأموالُ؟!
وهل قامت بالإجراءات القانونيةِ المطلوبةِ ضدّ المجرمين؟ وإذا كانت قد فعلت، فهل نشرتْ ما قامَ به مكتب النائبِ العام مِن إجراءاتٍ؟ أم أنّ الإجراءات حُفظت كمَا حُفظت مئاتُ القضايَا المُشابهة؟
هذا هو أسلوبُ بناءِ دولة المؤسساتِ، لمن يريد إقامةَ المؤسساتِ، ويُجنبَ بلادَهُ ويلاتِ الحروب.
الذي أشعل النار هو التعدِّي على الأبرياء، وسجونُ التعذيبِ والخطفِ والاعتقالِ والقتلِ خارج القانون، وتكميمُ الأفواه، وقمعُ الحرياتِ، ومنعُ التظاهرِ للمطالبةِ بالحقوقِ، وملاحقةُ النَّاشِطينَ مِن الإعلاميينَ والحقوقيينَ والدعاةِ وطلّابِ العِلم، والمطالبينَ بتحقيقِ الأهدافِ التي قامت لها الثورةُ، وتهديدُهم وتهديدُ أسرِهم بالخطفِ وسجونِ التعذيبِ، ممّا أدَّى إلى إفراغِ البلادِ منهم، واضطرارهم إلى الهجرةِ، في ظروفٍ ماديةٍ صعبةٍ على كثيرٍ منهم، حفاظًا على أرواحهم.
فالقمعُ الذي تمارسه هذه الكتائبُ، تتحملُ الحكومةُ والداخليةُ وِرزهُ؛ لأنّ الكتائبَ التي تقومُ به وتُديرُ سجونَه، تُلصقُ على مقرَّاتِها وسياراتِها شعاراتِ وزارةِ الداخليةِ، والحكومةُ هي التي تدعمُها بالمالِ، وتدفع لها المرتباتِ، وتعطيها الشرعيةَ.
فما لم تتبرأ الحكومةُ منها بأسمائِها، وتصدر قراراتٍ بحلِّها، وتأمر بالقبضِ على مَن تورّطَ منها في هذه الجرائمِ، وتقدمه للعدالةِ؛ فإنها تتحمّلُ وزرَهَا، وتعدُّ المسؤولةَ عن أعمالِها، فإن الله تعالى يقولُ عن الوقوف مع الظالمين وإعانتهم: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَإِنّهُ مِنهُم)، وفي الحديثِ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَعانَ ظالمًا فقدْ بَرئَ مِن ذمّةِ اللهِ وذِمّةِ رسولِهِ).
وكلُّ إجراءاتٍ دونَ ذلكَ، هي ذرٌّ للرمادِ في العيونِ، ولا تعالجُ الأسبابَ التي أشعلتِ النارَ.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
عاشوراء محرم 1440 هـ
الموافق 20 سبتمبر 2018 م