بسم الله الرحمن الرحيم
مصالحة وطنية، لا خلط أوراق
لا يخفى أن هناك متورطين في دعم نظام القذافي حتى سقوطه، وغارقين في فساده المالي والإداري إلى آذانهم، ومنتفعين برشاواه الكبيرة، سواء بالمال؛ السائل من النقود والمنقول، أو بالجامد من الذهب والأصول، أو بالمناصب والنفوذ والسلطان، فاستولى عليهم بذلك وصيرهم من عبيده، يتنفسون بنفسه ويتكلمون بكلامه، ويبطشون بيده، حتى إن منهم من لا يبصر حوله شيئا سوى باطله، وكانوا في تنفيذ شره ووعيده رهن إشارته وطوع بنانه ورغبته.
منهم من كانوا منذ قيام ثورة الشعب وُفودَه محليا ودوليا، حين كانت مدن ليبيا في مصراتة والبريقة والجبل الغربي وغيرها ينزل عليها جحيم جراده وراجماته، يجوبون البلاد وفي حوزتهم ملايين الدينارات والعملات الأجنبية، بل خزائن المال مفتوحة لهم على مصراعيها دون حسيب ولا رقيب، ولا قيود ولا شروط، سوى العمل على شراء ذمم الناس، داخل البلاد وخارجها، ليشتروا له من الخارج ليس سلعا ضرورية، ولا دواء ولا غذاء، بل ذمما ومواقف داعمة، في الإعلام والصحافة، بل دولا وتحالفات ومنظمات، وفي الداخل ليشتروا له ضعاف النفوس، لتكون جنودا له في كتائبه، وعيونا له على أهليهم وذويهم في دسائسه ومخابراته، فتساقط في هذا الوحل وزراء وعملاء ورجال أعمال وكبار مسؤولين في نظامه، وهو يدير معاركه، طمعا في المال وأملا في دوام الجاه والسلطان.
كان هذا يحدث في ليبيا في أحلك أيامها وشديد هولها وكربها، حين كان يهدد النظامُ شعبَه بكل دمار وعدوان، ويُنزل بهم من الشر والضر صروفا وألوانا، ما خطرت على بال إنسان ولا شيطان، ولم ينجوا من هذا الحيف من أعوانه ووزرائه وكبار مسؤوليه في مؤسساته ـ حين كان يدير معركته ـ إلا من رحم ربك، وعصمه من فضيحةِ عظيمِ الإساءة لوطنه، وكبير الإثم والخطيئة في دينه وخلقه.
وعندما غرق القارب، وعن ساعديه شَمَّر الهارب، سارع بعض هؤلاء ممن في حوزتهم تلك الأموال المنهوبة من المسئولين ورجال الأعمال إلى التعلق بالفرقة الناجية، والتعلقُّ والتملقُّ لا تعوز أمثالَ هؤلاء أدواتُه، ولا تنقصُهم خبرتُه ولا آلاتُه، فتلك طرقٌ اعتادوها، ومسالكُ أَلِفُوها، (شِنشِنة أعرفها مِنْ أَخزم) فأعلنوا توبتهم، وأظهروا بالدموع حوبتهم، وبرهنوا عليها بتسليم ما بقي من المال بحوزتهم إلى خزينة الثوار، مما كان زائدا على ما فاضت عنه حساباتهم وودائعهم، وعُدَّ ذلك منهم عرفانا على البلد ومِنَّة، بل أكسبهم حماية وحصانة، حتى احتفظ بعضُهم من أجله بمنصبه في الرئاسة والإدارة، فعاد بذلك بعضُ المال الذي كان أصله منهوبا لشراء الذمم، ليغطي عن أصحابه ما ارتكبوه من الإثم.
هل مثل هذا يا ترى من المصالحة الوطنية، أو من خلط الأوراق ؟!!
من تاب وصدقت توبته تاب الله عليه، لا يقدر أحد أن يحول بينه وبين التوبة، ولا أن يمنعه منها، وعلى الناس أن يقبلوا توبته، ويقبلوا المال منه، هذا لا إشكال فيه، فإن الله تعالى يقول: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء آية 110)، لكن الإشكال كل الإشكال الذي يصعب فهمه ويتعذر قبوله مِن الشعب الذي بذل في ثورته هذا الثمن الباهظ ـ أن يكون على رأس إدارات البلاد ومؤسساتها من كانوا بالأمس القريب ينهبون أمواله ويعينون على قتله، ويسومونه سوء العذاب.
إن لم ننتبه إلى هذا بحزم، ونتفطن إليه بعزم، تكون الثورة قد أصيبت في مقتل، ويكون الذي سقط في ليبيا هو حكم العائلة، ولم يسقط النظام، و (الجماهيرية) لا تزال قائمة، وهذا هو التحدي الحقيقي لنجاح الثورة أو فشلها، فسقوط الرأس دون سقوط النظام ودارُ لقمان على حالها لا يستحق كل هذه التضحيات، ويُعَدُّ من التفريط البين في الدماء التي زهقت، والأموال والأعراض التي انتهكت من أجل التغيير المنشود.
ليس في هذا التوجه إقصاء ولا إبعاد لأحد، فالكل يتفق على أن الناس أمام القانون سواء، ولا يعاقَب أحد إلا بذنب أدانه به القضاء، لكن الذي لا يمكن أن يقبل أن يكافأ من كان معاندا معاديا للتغيير متورطا في دعم النظام حتى سقوطه وعلى رأس مؤسساته ـ يكافأ على ذلك بإبقائه في مكانه أو تعويضه عنه في مكان قيادي آخر، مهما قدم من أموال أو بدت منه حسن نية، حتى لو كانت من أمواله، فكيف إذا كان المال الذي بذله ليس مالَه!
مِن الوفاء لدماء الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى، أن يكون اختيار المناصب القيادية في الإدارات والمؤسسات قائما ـ بالإضافة إلى الخبرة والكفاية ـ على المروءة والأمانة والديانة، فيُختار لها من لم تُخرم مروءته ولم تُجرح أمانته ولم يُقدح في ديانته.
اختيار الشخصيات الوطنية النظيفة العفيفة في المناصب القيادية هو مطمح الليبيين، وإليه ترنوا أنظارهم، فكلما كان المرشح لها ماضيه وتاريخه في باب الأمانة أمكن، كان بها أجدر ومنصبه أرفع، وتتنزل درجته ورتبته في المنصب عند الاختيار بِتَنَزُّل درجته في الأمانة، فإذا فُقدت بالكلية فُقد التأهيل للمنصب القيادي بالكلية، هذا هو العدل والقسط الذي أمر الله تعالى به: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص آية 28) ، (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (الرحمن آية 8،9) وهو أقل ما يُوفّى به للشهداء، وتُقَرُّ به أعين الأحياء، هو الميزان الحق، لأنه يقوم على إنزال الناس منازلهم وتقديرهم أقدارهم، ويتحقق به للبلد التغيير المنشود والأمل الموعود (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم آية 35،36)، وفي مقدمة صحيح مسلم (1/6) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ).
والرقيب البصير الذي ينبغي أن يكون متيقظا لهذا التولي للمناصب، ومتنبها وحاضرا فيه فاعلا لا مُغَيَّبًا هو المجلس الوطني الانتقالي، فإن الناس ائتمنوه على البلاد، وقدموا في نصرته ودعمه الدماء والمال والزاد، فبذلوا النفس والنفيس والغالي والرخيص، فالمجلس هو الراعي، ومن ائتمنوه هم الرعية، وكل من استرعاه الله رعية فهو مسؤول عن رعيته، فلا يتهاون ولا يُقَصِّر، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ محذرا من التقصير فيما وُلِّيَه الولاة: (اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ) (صحيح مسلم رقم 1828).
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
20 – ذو القعدة – 1432 هـ
الموافق: 18 – أكتوبر – 2011 م