حكم الشهادة العلمية المزورة

السؤال: 

السلام عليكم

فضيلة الشيخ إشارة إلى الفتوى 804 الصادرة عنكم وحسب فهمي الضعيف جداً بشأن الأخ الذي يُدرس بشهادة دكتوراه مزورة والذي أبحتم له فيها استعمال الشهادة المزورة وشرعية ما تقاضاه من مرتبات ومكافآت وإشرافه على الرسائل التعليمية العليا مما يعد مخالفاً للشريعة الإسلامية وما جاء به الكتاب الحكيم والسنة النبوية الشريفة إضافةً إلى تشجيع الغير على ارتكاب المخالفات وتزوير الشهائد الأخرى لذلك نأمل منكم إعادة النظر في فتواكم المشار إليها كما نأمل تدعيم كل ما يصدر عنكم من فتاوى بالأسانيد الشرعية وعدم تعارضها مع ما ورد فيما أصدرتموه من فتوى رقم 738.والله الموفق إلى ما فيه الخير والصواب

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
الحالتان في السؤالين مختلفتان وليستا بمنزلة واحدة في الحكم، فالحكم في الأولى غير الثانية، وتوضيح ذلك فيما يأتي:
الحالة الأولى يسأل السائل فيها عن الغش نفسه، هل يجوز له أن يُقدم عليه ويغش أو أن يشتري الشهادة بالتزوير، بمعنى أنه يريد أن يرتكب أمرا فيه مخالفة شرعية تتمثل في غش وتزوير شهادة، ولا تكون في الغالب إلا مصحوبة برشوة، فهذا لا يمكن أن يُقال له شرعا افعل المخالفة وارتكب المحظور، ثم بعد ذلك تب وأدِّ عملك على الوجه المطلوب، لأنه يفعل منهيا عنه، والمنهي عنه مطلوب الترك لذاته، بغض النظر عما يقع بعده، فلا يكون في الشرع أبدا حلالا ولو أراد صاحبه أن يتوصل به إلى أمر مشروع أو قربة، فهو كمن يسرق ويظلم ليتصدق فيما بعد ويطلب الصفح، وذلك واضح البطلان، لأن الله لا يأمر بالمعصية (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) .
أما الحالة الثانية فإن السائل يسأل عن مخالفة ارتكبها وفرغ منها، وشعر الآن بخطيئته، وهناك أمر واقع وصل إليه وترتب على هذه المخالفة، وهو حصوله على عمل، يقول هو أنه كفء له ويؤديه أفضل من زملائه الذين يُفترض أنهم أخذوا شهاداتهم دون غش ولا تزوير، فهل مرتبه على هذا العمل يكون غير مشروع، والحال أنه قد أدى عمله على أكمل وجه، لأنه تعين في العمل بدون وجه حق، ويقال لزميله ـ الذي افترضنا صحة أوراقه وتحصل عليها من غير غش والحال أنه يغش في العمل نفسه ويؤديه على وجه رديء هزيل وكان هو وأمثاله سببا من أسباب تخلف الأمة وتعطيل مسيرتها وفساد إداراتها ـ يقال له إن مرتبك مشروع حلال عليك، لأن أوراقك سليمة؟!.
هذا أمر غير صحيح البتة، المرتب هو أجرة على عمل وليس أجرة على شهادة، والشهادة هي لم تُشترط في الوظائف لذاتها، ولكن شرطت لأنها في الغالب هي الوسيلة التي يمكن بها معرفة الكفء للعمل من غيره، فإذا وصلنا إلى الكفء من غيرها بالتجربة الناجحة فقد وصلنا إلى الغرض وحققنا المصلحة المرجوة منها، والمقاصد الشرعية في المصالح والمفاسد تقضي بأنه ما دام العمل مُؤَدًّى على الوجه المطلوب، فإن الأجرة تكون صحيحة.
أما إن كان العمل فيه تطفيف في الكم أو الكيف فإن الله تعالى يقول (ويل للمطففين) ولو كانت الشهادة صحيحة، ويقول عز وجل: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان).
فإن كان المرتب أجرة على الشهادة نفسها بأن قال صاحب العمل مثلا: (من كانت له شهادة دكتوراه فله ألف دينار مكافأة له كل شهر على شهادته، عمل أم لم يعمل) فهذا يُصَيِّر مُرَتَّب صاحب الشهادة المزورة غير مشروع وإن هو أتقن عمله، ومرتب صاحب الشهادة غير المزورة مشروعا وإن قصر في عمله .
وليس في الحكم على صحة المرتب الوارد في السؤال تشجيع على الغش، لأن المسلم إذا قيل له الغش حرام فهذا يكفيه في الانتهاء عنه، لا يحتاج معه بعد ذلك إلى شيء، مهما كانت مغريات النفس في حملها على ارتكاب المنهي كبيرة، ولا تعد هذه المغريات النفسية على المعصية تشجيعا على ارتكابها، فإن الله تعالى حين قال في الخمر: (فهل أنتم منتهون) قال الأصحاب: انتهينا، وأراقوا الخمر في شوارع المدينة على الرغم من حبهم إياها وإلفهم لها، وما تحققه لهم من كسب ومال .
أما من عصى الله تعالى ولم يُبال بما نهاه الله تعالى عنه وارتكب المخالفة، ثم ترتب على مخالفته أمر آخر يريد معرفة حكمه، كما في هذه المسألة، فإنه يُنظر في حكمه من الأدلة الشرعية.
فقد يَعتد الشرع بالآثار المترتبة على أمور منهي عنها حفاظا على الحقوق، فالنكاح الفاسد المنهي عنه يُرتب عليه الشرع أحكاما يَعتد بها على الرغم من فساده، ولا يُعَدُّ اعتداده بها تشجيعا على عقود النكاح الفاسدة، وذلك كوجوب المهر للمرأة بالدخول لأنها بذلت نفسها، وكمن غصب مالا أو سَرَقَهُ أو كسب مالا حراما من خمر أو حشيش أو رشوة وتَعَدَّى صاحب هذا المال الحرام فلم يَرُدَّه لأهله، بل نَمَّى هذا المال الحرام في التجارة وغيرها بطرق مشروعة وعقود صحيحة، ورَبِحَ في هذه التجارة أموالا طائلة، فإن الفقهاء عامة يقولون إن ربحه له حلال، لأنه ضامن لأصل المال الذي تَعَدَّى عليه وهو في ذمته، والربح هو من كَدِّه وعَمَله، والنبي صلى الله عليه وسلم قضى أن: (الخراج بالضمان) (الترمذي حديث رقم 1285، وقال حديث حسن صحيح)، ولم يعدوا هذا من التشجيع على الغصب ولا على الكسب الحرام .
ولك تقريبا للأذهان أن تقيس مسألتنا هذه على من اشترى رخصة مزورة لقيادة السيارات وهو قادر على قيادة المركبة بسلاسة وكفاءة، فهل يقال له: حرام عليك قيادة السيارة لأن رخصتك مزورة، فإذا كان هناك آخر مثلا لم يزور رخصته لكنه مرتبك ولا يُتقن القيادة، هل يقال له: إن قيادتك لسيارة في الطريق السريع مشروعة لأنك تحمل رخصة سليمة ليس بها غش ولا تزوير.
ولو أن عاملا تسلل ودخل إلى بلد بأوراق مزورة وتمكن بسبب دخوله المزور من العمل في ذلك البلد، هل يقال له: لا حَقَّ لك في المرتب لأنه مبني على أوراق مزورة هي التي أوصلتك إلى هذا العمل، ولولاها ما كنت تحصل على ذلك، وما بُني على الباطل فهو باطل كما يقولون.
بل لو حصل خلل في ترتيب قوائم المتقدمين للوظيفة فقُدِّم مَن حَقُّه التأخير تعديا، وحُرِم المستحق، هل يكون مرتب من عُيِّن قبل غيره غير مشروع، لأن تعيينه غير مشروع لتعديه على حق غيره، ولا يكون مرتبه مشروعا إلا إذا كان تسلسله في التعيين صحيحا .
ولو أن أحدا اقترض مالا بالربا واشترى به بيتا أو عقارا شراءً صحيحا وباعه بأضعاف ثمنه، فهل يقال له: المال ليس من حقك، لأن أصله محرم وهذا يشجع على المعصية والاقتراض بالربا، وأنه لا يجوز لأحد أن يشتريه منه، لأن فيه أيضا تشجيعا له على ارتكاب المعصية.
أهل العلم يقولون غير هذا، قال مالك رحمه الله تعالى: من بيده مال حرام، فاشترى به دارا، من غير أن يُكْره على البيع أحدا فلا بأس أن تشتري منه أنت تلك الدار التي اشتراها بالمال الحرام (انظر المعيار 12/66).
وفي النوادر لابن أبي زيد من رواية عيسى عن ابن القاسم: (من باع جلود ميتة وابتاع بالثمن غنما فنمت ثم تاب، فليتصدق بثمن الجلود لا بالغنم، قال عيسى: فيرد الثمن إلى من ابتاع منه الجلود أو إلى ورثته فإن لم يجدهم تصدق بذلك) (النوادر والزيادات 6/184، وانظر البيان والتحصيل 7/444، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 29/308).
فالإقدام على العمل بتزوير الشهائد والتعيين في الوظائف لهذه الشهادات المزورة أو بالتعدي والوجاهة، لا يجوز شرعا الإقدام عليه، لأن الغش حرام، والتزوير حرام، والتعيين في الوظيفة بالوجاهة بتقديم الوضيع غير المؤهل أمانة وعلما وحرمان المؤهل لا يجوز، لما فيه من التعدي على الحقوق وتضييع الأمانة وغش الأمة، لكن بعد الوقوع، من أدى عمله على الوجه المطلوب، استحق أجره، وعليه التوبة والحذر، وتطهير ماله ما أمكن ببذل قصارى جهده في عمله خدمة للمسلمين وعونا لهم، والله تعالى أعلم.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

تاريخ الإجابة: 
السبت, يناير 1, 2011

شوهدت count[5] مرة

التبويبات الأساسية